مساحة الترقب لا شك كبيرة خصوصا فى ظل مجتمع يرى الأجنبى والمستورد هو الأفضل، والفيلم رغم أنه مصرى بل حكومى، فإنه قدم نفسه للجمهور فى بداية التعارف باعتباره فيلما مدعما بقوة من المهرجانات الأجنبية.. الوجه الآخر لتلك الرؤية هو أن هناك مسافة تتسع بين الفيلم والجمهور مع تتابع مشاركات الفيلم فى مهرجانات، فهو إذن ليس فيلمهم ولكنه لآخرين، رغم أنه لا يوجد فى واقع الأمر تناقض بين أن تقدم فيلما يلقى فى نفس الوقت جوائز المهرجانات وإعجاب الجمهور! دعونا ننظر أولا إلى الوجه الإيجابى للصورة، وهذه نقطة تبدو لصالحه، فلقد عرض الفيلم فور إنتاجه فى واحد من أهم ثلاثة مهرجانات عالمية وهو «فينسيا» داخل مسابقته الرسمية وجاءته أول طعنة.. لم يحصل الفيلم على شىء، لم تكن هذه هى الطعنة، ولكن انطلق بطل الفيلم عمر الشريف فى فينسيا مهاجما الفيلم بضراوة، ورغم ذلك ظل «المسافر» ينتقل من مهرجان إلى آخر، تجاوزت المشاركات ربما العشرين وآخرها «تورنتو» فى كندا وحصل مؤخرا على جائزة المهرجان. الفيلم الذى يتردد اسمه كثيرا قبل العرض الجماهيرى يعتقد المشاهد أنه بصدد فيلم قديم، ولهذا فإن أغلب الأفلام التى تعرض فى مهرجانات يحرص صناعها على الدفع بها مباشرة وعلى وجه السرعة إلى السينما، حتى لا تطول المسافة وتخبو قوة الدفع! فيلم «المسافر» حالة استثنائية فى تاريخ الإنتاج المصرى، الدولة هى التى تحمست استنادا إلى موقف شخصى لوزير الثقافة الأسبق فاروق حسنى، الذى تحمس لتقديم «المسافر»، وليس سرا أن مفتاح هذا الفيلم فى يد خالد النبوى هو الذى أعجبه فى البداية السيناريو وتقدم به لفاروق حسنى الذى تحمس للإنتاج، وتشكلت لجنة من عدد من النقاد باركوا المشروع ومنحوا لقرار الوزير قوة أدبية. أنا لم أقرأ السيناريو ولكن من خلال الشريط السينمائى أستطيع أن أجد أن السيناريو كان يحمل بالفعل مشروعا فنيا ينبئ عن قيمة إبداعية، إلا أن اللغز الذى أتصور أنه من الممكن أن يتحول إلى قضية جنائية من الذى رصد هذه الميزانية المبالغ فيها والتى بدأت ب9 ملايين جنيه، ثم ارتفعت إلى أكثر من 20 مليونا؟ وكيف لدولة تتوقف 40 عاما عن الإنتاج ثم تختار فيلما معينا دون أن تقيم مسابقة تمنح خلالها الفرصة للجميع؟ هل كان خالد النبوى هو المسيطر الحقيقى على كل تفاصيل الفيلم، خصوصا أن المشروع لم ير النور وتتحمس له الدولة إلا فقط بعد أن قدمه خالد للوزير.. الشريط السينمائى يؤكد أن خالد تعامل مع الفيلم باعتباره ملكية خاصة، وربما سر غضب عمر الشريف أن الفيلم به مساحات درامية مبالغ فيها لخالد، كما أن لجوءه إلى تقليد عمر الشريف فى الجزء الثانى من الأحداث أساء فنيا إلى العمل الفنى، والأمر ليس له علاقة بأن الجمهور لم يتعود فى السينما المصرية على التعامل مع الرؤية الدرامية التى تجمع بين الخيال والواقع.. بعض الأفلام تصنع وهى تحمل تجديدا فى الرؤية، ولا تراهن على أسلوب السرد التقليدى، إلا أن هذا لا يعنى أنها بالضرورة هى الأفضل كما أن هذا لا يعنى بالضرورة انصراف الجمهور عنها.. الفيلم غاب عنه ضبط الإيقاع العام فكان المخرج تراه فى لحظات يبرق على الشاشة إبداعيا ثم يخبو فى لحظات أخرى، وكأنه لا يقف خلف الكاميرا.. التمثيل فى مشاهد عديدة كان مسؤولية كل ممثل، المخرج ترك خالد النبوى يبرطع أمام الكاميرا كما يحلو له! لم يستطع «المسافر» فنيا أو وجدانيا الاقتراب من الجمهور، وأتصور أن العمل الفنى يتحمل القسط الوافر من تلك الإخفاقات.. ويبقى أن هناك مسؤولا ينبغى محاسبته لماذا «المسافر»؟ من الذى منح سلطة مطلقة للوزير الأسبق لكى يرصد كل هذه الأموال من ميزانية الدولة وليس من جيبه الشخصى؟ لماذا لم تجر الدولة حتى الآن تحقيقا لنعرف كيف تتحمس لعمل فنى بعينه ولا تمنح الفرصة لكل المبدعين للتقدم بأعمالهم؟! منذ عامين وأنا أسأل نفس الأسئلة ولا أتلقى أى إجابات.. الآن أنتظر ليس إجابة ولكن تحقيقا لنعرف بالضبط من أنفق ونافق وأهدر؟!