انفجار المشكلات والأزمات السياسية والاجتماعية الاقتصادية في عالمنا، قد لا يبدو جديدًا لأن كل مرحلة من مراحل التطور التاريخي في التقنيات والاتصالات والثقافات والاختراعات والإبداعات، تأتي ومعها مشكلات وأزمات جديدة، وأخرى قديمة، وتحاول الطبقات السياسية التعامل مع هذه الأزمات، لا سيما في الدول الأكثر تطورًا، وحضورًا في موازين القوة الدولية، من عصور الإمبراطوريات الكبرى في المراحل الاستعمارية إلى الدول القومية مع تطور حركة القوميات وتطور النظام الرأسمالي الدولي، إلى الحروب العالمية الأولى، والثانية، ونظام الثنائية القطبية، والحرب الباردة وانهيار الإمبراطورية السوفييتية، ثم صعود الإمبراطورية الأمريكية بعد انهيار حائط برلين. في كل لحظة ومرحلة انتقال من حقبة لأخرى، وعالم لآخر، هناك الدور البارز الذي تلعبه الطبقات السياسية المحترفة وذات القدرات والكفاءات في الغرب وشمال العالم، وبعض الأذكياء والموهوبين في جنوب الدنيا. منذ الأزمة المالية العالمية 2008، ومحاولة أوباما معالجتها مع عديد من القادة السياسيين في أوروبا وآسيا الصاعدة، إلا أن عديد الاختلالات، وبروز ضعف المهارات والأخيلة السياسية والقدرات تزايد مع بروز متغيرات جديدة على الساحة الكونية، ويمكن رصدها فيما يلي: 1- صعود الجماعات الإرهابية ذات السند والأيديولوجيا الدينية الإسلامية الراديكالية وشرعنتها للإرهاب وممارسة أقصى مستويات الرعب والخوف الكوني، ولم تعد الظواهر الإرهابية قاصرة على بعض المواجهات مع النخب السياسية الاستبدادية، والتسلطية الحاكمة في بعض الدول العربية أو الإسلامية فقط، وإنما امتدت الأنشطة والعمليات الإرهابية إلى الساحات الكونية على نحو ما رأينا، ولا نزال في أمريكا، وبريطانيا، وفرنسا، وبلجيكا، وهولندا، وباكستان والهند وأفغانستان، وإندونيسيا، وفي إفريقيا في نيجيريا، وأوغندا.. إلخ وفي منطقة الشرق الأوسط من تركيا إلى العراقوسورياولبنان والأردن، والسعودية، واليمن، ومصر وليبيا وتونس والجزائر والمغرب ... إلخ. الدول السابقة مجرد أمثلة على مواقع العمليات الإرهابية الكبرى والمتوسطة والصغرى التي تمت في هذه الدول. أخذت التقنيات الإرهابية في التطور التقني في نوعية التكنولوجيا التدميرية المستخدمة، والأهم في ارتفاع مستويات الخيال الإرهابي لدى بعض قادة هذه الجماعات، سواء في بناء تصورات معقدة، أو بسيطة لكل مشروع عملية من العمليات، بحيث تفاجئ أجهزة مقاومة الإرهاب والقائمين عليها. من ناحية ثانية: الطابع الوحشي للعمليات وطرائق تنفيذها، ونتائجها الكارثية والدموية التي تنتج دائمًا أقصى درجات الخوف والترويع لدى الجمهور، وأجهزة مواجهة الإرهاب. من ناحية ثالثة: يبدو الجانب التخطيطي والمعلوماتي الاستخباري لدى بعض هذه الجماعات -داعش والقاعدة- بل والذئاب المنفردة، وهي دراستهم ومراقبتهم لمسرح العملية، وكيفية تنفيذها، وقتل وجرح أعداد كبيرة من الضحايا، وفي اختيار مسارح عمليات ذات رمزية ودلالة، شاطئ في منطقة نيس السياحية الشهيرة، موقع البرلمان البريطاني -وستمنستر، محطات مترو الأنفاق... إلخ. من ناحية رابعة: اتخاذ عنصر المفاجأة في مواجهة بعض أشكال التراخي أو الكسل الأمني، مما يؤدي إلى وقوع خسائر وأضرار كبرى، وتشير عمليات نيس، وشارل إبدو إلى فجوة معلومات وتوقع وكسل وصراع بين الأجهزة الأمنية والاستخباراتية الفرنسية، بالإضافة إلى بعض الضعف وعدم الكفاءة والاستعدادية لدى هذه الأجهزة. من ناحية خامسة: بعض من عدم التنسيق بين بعض الأجهزة الأمنية والاستخباراتية الأوروبية، بل واعتماد بعض الدول كفرنسا على بعض المعلومات الاستخبارية على المخابرات المغربية! من ناحية سادسة: ظهور شبه دولة في مناطق بسورياوالعراق أقامها تنظيم الدولة الإسلامية، داعش، وتمتلك موارد طبيعية -نفط- ولديها كوادر من بقايا قادة وجنود حزب البعث العراقي، ومن سوريا، ومن ثم جيوش لديها أسلحة متطورة... إلخ. وقدرة التنظيم على بناء شبكات مع عناصر له، تسمح له بالتجنيد وبالإعلام الذكي عن أيديولوجيته وأدائه وعملياته، تديره مجموعات محترفة تعمل على الواقع الافتراضي بذكاء وكفاءة، وهو ما يظهر في إشاعة الرعب من بث عمليات داعش. من ناحية أخرى قدرة التنظيم على جذب عناصر شابة على المستوى الكوني للانخراط داخله، أو للعمل كذئاب منفردة، أو "منغمسين" لتحقيق أهداف التنظيم المعلوماتية والاستخباراتية. من ناحية سابعة: الطابع الكوني متعدد الجنسيات للمنظمات الإرهابية، أي انخراط أفراد من جنسيات مختلفة -84 جنسية في تركيب عضوية تنظيم الدولة الإسلامية داعش، والقاعدة-، ومن ثم يتيح حركة أوسع لعمليات هذه التنظيمات الإرهابية الدموية. أصبح الإرهاب ظاهرة كونية، وحتى مع إمكانية تصفية داعش، فهذا لن ينهي الظواهر الإرهابية، لا سيما الفردية وذات الطابع العدمي، من عناصر مغتربة عن واقعها الاجتماعي والسياسي ومقصية من النظام الاجتماعي. من ناحية ثامنة: تشير الأيديولوجيا الدينية الإرهابية والطبقية إلى فشل المؤسسات الدينية الرسمية الداعمة للنظم الاستبدادية والتسلطية العربية والإسلامية عمومًا، لأسباب تاريخية، ولفقدان بعضها للصدقية لدى بعض الأجيال الجديدة، وقادة وأعضاء الجماعات الإسلامية السياسية الراديكالية الذين يؤسسون مكانة أيديولوجية ودينية لهم تقوم على نقدهم لرجال الدين الرسميين بأنهم "دعاة و"علماء السلطان"! وانتقاء نصوص فقهية تأويلية موروثة تبرر عنفهم وإرهابهم. ثانيًا: تفكك بعض الدول في الإقليم في أعقاب الانتفاضات الجماهيرية العربية في مصر وتونس وسوريا واليمن وليبيا، والحروب الأهلية التي نشبت فيها ولا تزال مستمرة في هذه الدول. ثالثًا: الهجرات القسرية الكبرى من الدول المنهارة ونشوب الحروب الأهلية داخلها وإلى دول الجوار الجغرافي في تركيا، لبنان، والأردن، ومصر، وإلى بعض الدول الأوروبية، بالإضافة إلى الهجرة من جنوب المتوسط إلى شماله، من بعض البلدان الإفريقية، وهي ظاهرة خطيرة وراءها أسباب مركبة، كالاستبداد والفقر والأزمات الاقتصادية والسياسية، والبحث عن الأمل من وراء محاولات الهجرة عند حافة الغرق والموت في قواربه المرتحلة من جنوب المتوسط -مصر وليبيا والمغرب... إلخ-، وهو ما يشكل خطرًا أمنيا للدول الأوروبية وخوفها من التطرف والإرهاب المحتمل. رابعا: عصر الBig Data وتطوراته وأثرها على كفاءة التحليل ورسم السياسات والخيال السياسي والأداء التقني. خامسًا: أثر الثورة الرقمية على العقل السياسي في أوروبا وأمريكا واليابان والصين وروسيا.. إلخ، من زاوية كفاءة التكيف من الطبقات السياسية في الحكم والمعارضة، وعلى العلاقات مع تفاعلية الأجيال المختلفة، وفي إدارة السياسة، وفي العلاقة بين قادة الأحزاب السياسية الحاكمة والمعارضة والقدرة على التواصل مع قواعدهم الاجتماعية. فجوة الحساسية السياسية والاجتماعية شائعة لدى بعض الطبقات السياسية وبين ما يجري في المجتمع من تغيرات وتحولات، وتراجع قدرتهم على استيعابها والتفاعل معها والاتصال مع الأجيال الجديدة. سادسًا: بروز انعزال الطبقات السياسية الحاكمة والمعارضة من مختلف الاتجاهات السياسية، وبين ما يجري في الواقع الموضوعي والاجتماعي، واتساع الفجوات بينهم وبين الشرائح الاجتماعية المختلفة في ظل عصر ما بعد الحقيقة الذي يحمل في أعطافه نمطا من الشعبوية السياسية التي تنمو مع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ووصول ترامب إلى مقعده الرئاسي في البيت الأبيض. سابعًا: أحد أبرز أسباب الفجوة بين الطبقات السياسية الأوروبية، والأمريكية هو نمو الفساد واستغلال النفوذ داخلها على نحو ما تشير إليه الانتخابات الفرنسية وبعض ما أثير في أثناء وبعد الانتخابات الأمريكية الأخيرة. ثامنًا: يبدو أن تراجع بعض من كفاءة الأحزاب والمؤسسات السياسية الغربية، والأحزاب السياسية في ظل ثورة الرقميات، وعدم قدرتها على التعبئة والحشد كما كان يحدث قبلاً، أثرت عليها كمؤسسات للتنشئة السياسية وتكوين الطبقات السياسية، وعلى مستوى بناء وتكوين كوادر الأحزاب، وهو ما يظهر في بعض من ضعف مستوى قادة هذه الأحزاب والدول في الحكم أو في المعارك الانتخابية وغلبة الطابع البيروقراطي والتكنوقراطي المحدود على قادة هذه الحكومات والأحزاب. يبدو أننا سنشهد عديدا من الظواهر الجديدة لضعف كفاءات ومواهب الطبقات السياسية الحاكمة والمعارضة خلال الفترات القادمة، وستستمر إلى حين التكيف مع التحولات الاجتماعية للثورتين الرقمية والتكنولوجية الرابعة.