أنظر إلى الصفحة الإلكترونية الناصعة البياض والبراقة، فارغة تماما من أى كلمات للمقال الذى أنوى كتابته. أصلا فكرة مقال اليوم انتابتنى وأنا فى السرير أودع تعسيلة الظهيرة، بعد مخدر الثوم فى القلقاس، الذى تناولته بشغف وأعافر من أجل الفوقان، علما بأن المجازفة دائما هى فى صمود الفكرة بالذاكرة قبل أن تتبخر مع فنجان الشاى بالنعناع، كما هو الحال فى هذه اللحظة التائهة. هل هذه المشاعر ستصبح صُلب موضوع المقال الذى تتسابق الآن الأحرف المضاءة فى تشكيل الجمل تحت إيقاع أصابعى المتحفزة؟ أم أن مبدأ اكتب ثم فكر، هى وسيلة إيقاظ للذاكرة التى لا تزال مستسلمة لنوم النهار الجميل المُكتظ بشتى الأحلام، لا تدرى بعد أن تستيقظ هل كانت بالفعل أحلام نوم أم أحلام يقظة. دوامة فى حاجة مُلحة إلى القُرص الساحر الذى قد يَفُك بعض الشىء صواميل الدماغ المزرنخة بتأثير القلقاس الفرعونى الأصل الرهيب. أكتب هذا وعبر النافذة ألمح فى السماء المحمرة مع غروب الشمس طائرة تبدو فى اتجاهها إلى مطار القاهرة، متمنيا أنها تحمل فوجا هائلا من السواح، وأثق تماما أنهم حين يكتشفون طبق القلقاس بالثوم والخُضرة مع رزنا الأبيض الأصيل سيقدرون تعسيلة الظهيرة التى قادتنى لأملأ هذه الصفحة بكل هذا الهراء الممتع. بالنسبة لى بعد القلقاس والنوم والهراء، آن أوان مشاهدة فيلم مثير يستحوذ على كل حواسى، ويأخذنى معه إلى عالم آخر لا يوجد به القلقاس. ومثلما احترت فى كتابة المقال أجد نفسى أكثر حيرة فى اختيار الفيلم خوفا من أن يقع اختيارى على فيلم فرنسى يشمل مشاهد أكل يثير اللعاب، شخصياته تتبادل حوارا عميقا مع تلميحات خبيثة وعلاقات مشبوهة تكشفها نظرات متبادلة، بينما الكل يبدو مشغولا بالأكلات الفرنسية الملعوبة، التى لا يفارقها الثوم أيا كانت الأكلة. وإذا كان اختيارى لفيلم هندى مُبهر بألوانه ورقصاته وأبطاله لا يأكلون إلا الكارى وتوابله، مع الثوم طبعا الذى يرافق كل شىء من الفراخ إلى اللحم إلى السمك. وإذا رسيت على اليابانى والسوشى الذى لا أفهم الغرض منه حتى الآن، وهل هو مجرد تقليعة لولاد الذوات أم بالفعل له ذواقينه بيننا. أتذكر فى أثناء زيارتى فى الفجر سوق السمك فى طوكيو وطابور السواح أمام محل السوشى، الذى يفتح أبوابه الخامسة صباحا، والكل فى انتظار دوره ليتناول قطع السمك الفيليه الطازج النيئ باستمتاع حِسى غريب بالرغم من غياب الثوم. فى النهاية يبدو أننى سأستقر على فيلم من بلدنا الجميلة، إذا قدم مشاهد أكل فهى إما الفول من على العربية أو الكشرى فى مطعم شعبى، أو ورق العنب بشوربة الكوارع وطبق الفِشة فى المسمط، وأحيانا تُذكر الملوخية بالأرانب أو الفراخ أكلة مفضلة فى الأفلام، ولو كان ظهورها نادرا لمسائل إنتاجية بحتة، وماننساش الفتة العظيمة فى مشاهد العيد، والبامية والرز المفلفل وشوربة العدس، كل هذه الأكلات لا يمكن أن تستغنى عنها أفلامنا ولا حتى تستغنى عن صديقنا الثوم والحمد لله.