حمدى عبد الرحيم يحاول تضفير الشعرى بالنثرى والخاص بالعام والتراجيدى بالساخر والعامى بالفصيح من الملاحظ فى الآونة الأخيرة أن القصة القصيرة تعود مرة أخرى إلى المشهد الإبداعى المصرى، بعد أن نعاها منذ سنوات قريبة نقاد وكتاب وأوساط ثقافية، وسمعنا صرخات كثيرة تنادى بإنقاذ هذا الفن الذى يعانى من ضربات قوية بسبب توغل وتغول فن الرواية، حيث إن هذه الأخيرة وجدت محافل كبيرة تحتفى بها، وتنعقد حولها مؤتمرات، وتقام لها جوائز كبرى ذات عوائد مادية ضخمة، وعوائد أدبية مضيئة، وتجد طريقها إلى الترجمة لعدة لغات بسهولة، وبعد كل هذا، نجد بوادر طيبة تنذر بعود أحمد لفن القصة القصيرة بصدور كوكبة من المجموعات القصصية التى تليق بتطور هذا الفن، ودحض خديعة احتضاره، أو تقاعسه، أو تراجعه، وسنتناول هذه المجموعات تباعًا إن شاء الله، ومن بين هذه المجموعات، مجموعة «ليلة دخلة شيماء» للكاتب والمبدع حمدى عبد الرحيم، الذى كان قد أصدر رواية من قبل وهى: «سأكون كما أريد»، ومن الملاحظ فى حياتنا الثقافية والإبداعية أن الكاتب يبدأ على استحياء بإصدار مجموعة قصصية، وبعدها ينشر رواية، ولا يعود إلى القصة القصيرة مرة أخرى، وكأن كتابة القصة القصيرة كانت مجالًا للتدرب على كتابة الرواية، وهذا عكس ما حدث مع حمدى عبد الرحيم، وهذا يعود للجدية والصدق اللتين تتميز بهما إبداعات عبد الرحيم، وهاتان الصفتان عندما يتوفران فى أى نوع من الإبداع، يكتبان له الرقى والجودة وجواز المرور، أى أن المبدع لا يجرى خلف تيمات وتقنيات ليست له، لكنه يكون انعكاسًا خاصًا جدًّا لنفسه هو ولتجربته هو ولثقافته هو، ولا يتسلق على تقنيات ليست له، وهذا ما نلاحظه فى كتابة مبدعنا حمدى عبد الرحيم. مجموعته «ليلة دخلة شيماء»، الصادرة عن دار «أوراق»، التى تحتوى على خمس عشرة قصة، تنطق بكل ما هو خاص، وجديد، وتضعنا أمام لون جديد من الكتابة، ومن التقنيات، وكأن فن القصة ما زال قادرًا على إثارة الدهشة، فى كتابة حمدى عبد الرحيم، دومًا نشعر أنه يحاول تضفير الشعرى بالنثرى، والخاص بالعام، والتراجيدى بالساخر، والعامى بالفصيح، وكل هذا يتكون فى جمل تطول أو تقصر لا تفارقها هذه السخرية الكامنة بين السطور والمفردات والجمل، وليس من الغريب أن مبدعًا هذه سماته، أن يستهل مجموعته بفقرات شعرية من محمود درويش تقول: «نامى لأعرف فى أى ملح أموت، وفى أى شهد سأبعث حيًّا. ونامى لأحصى السموات فيك وشكل النباتات. وأحصى يديا»، وكذلك لن نندهش عندما نلاحظ أن كاتبنا يستدعى ماركيز وإيزابيلا الليندى وسميح القاسم وغيرهم من الكتاب فى قصصه، وإن كانت بعض القصص ما هى إلا حوارات خاصة شبه مسرحية أو استعراضية، مثل قصتى «زفاف حبيباتى» و«خمسون سؤالا.. ثم مات الرجل»، فى القصة الأولى يتخيل الراوى -محض تخيل- أن له سلسلة من الحبيبات اللاتى يعرض لجوانب من حياتهن معه فى القصة، وكل واحدة من الحبيبات خاض معها تجربة، فحبيبته الأولى كان يقابلها فى شوارع «المنيل»، ودومًا نجد الكاتب يستوقفنا بجمل اعتراضية خارج موضوع القصة، هذه الجمل هى التى تعمل على تحميل القصة بأبعاد بريختية، ثم حبيبته الثانية الطيبة، التى كأنها أمه، ويظل يتدرج حتى يصل إلى حبيبته العاشرة التى تتمتع بإيقاع خاص جدًّا، ونكتشف أن ذلك مجرد خيال فى خيال يستعرض فيه الراوى إمكانيات عاطفته المغبونة، وفى القصة التالية «خمسون سؤالا.. ثم مات الرجل»، تدور الأسئلة بين اثنين، وليس معروفًا من هو السائل، ومن هو المسؤول، هل طبيب يسأل مريضًا، أم محقق يسأل متهمًا؟ أم رجل مثقف وفيلسوف وعارف بالحياة يسأل شخصًا عاديًّا»، وإذا ضبطنا ما يدل على هوية أى من هؤلاء، فسرعان ما تذوب هذه الهوية بفعل أسئلة أو إجابة أخرى، وتبقى الأسئلة والأجوبة التى تدور حول موضوعات كثيرة تخص المرأة خصوصًا، هواجس وظنون وإشكاليات قائمة وفاعلة فى الحياة. ولأن الكاتب تطرق إلى أحداث الثورة، فهو لم يتطرق إلى الأبطال المعلنين دائمًا، ولا الجماعات التى راحت تظهر تباعًا وكأنهم حاملو رايات النصر والاستقلال دومًا، بل نجد الكاتب يتسلل إلى الصفوف الخلفية، الصفوف التى هى التفاصيل الحقيقية للحدث الثورى الحقيقى، وتأتى قصتا «مناقب سيد صومال» و«ليلة دخلة شيماء»، فى القصة الأولى يلقى بها الكاتب عبر فقرات قصصية معنونة مثل «نسبة مولده وطفولته والأصل فى لقبه وعلمه وأساتذته وهكذا»، هذه الفقرات التى تأتى فى بناء بديع، تفصح عن شخصية لا يهمها أن تكون فى برواز الثورة، ولا تطمح أن تكون «بطلًا» للحدث، كذلك قصة «ليلة دخلة شيماء»، التى تأتى على هيئة اعترافات طفلة من بنات الرصيف أو الشوارع كما يقولون أمام محقق أو ضابط شرطة، وتخاطبه طوال القصة ب«يا باشا»، لتذكرنا بأنه ما زالت صيغة «الباشا الكبير والصعلوك الفقير» هى التى تحكم حياتنا، وعلى مدى القصة، تسرد شيماء حياتها، هذه الحياة البشعة التى هى حياة آلاف الفتيات والشباب، شيماء ليس لها عنوان، فهى اليوم فى إسكندرية، وغدًا فى موقف «عبود»، أى حسب لقمة العيش، وعندما جاءت 25 يناير وجدت نفسها فى قلب ميدان التحرير، وبعد 28 يناير قابلت «حماطة» الذى صار بائعًا للمناديل، بعدما هجم مع كثيرين على إحدى شركات الظلمة، وأفرغوا ما بها، واختلفت مقاديره، وصار يبيع كروت شحن موبايلات، وبعد هذا اللقاء قررا أن يتزوجا، وبالفعل ذهبا إلى المأذون الذى لم يكن إلا المقدس بشاى، وهنا تستسلم شيماء لهذا الزواج العجيب والفانتازى، لكنه أرحم من الحياة هكذا، ويقرران أن تكون ليلة الدخلة فى التحرير، لكن سرعان ما تأتى الشرطة لتقبض عليهما وهما فى وضع زوجى حميم، ويهرب حماطة وتقع شيماء بين أيدى الشرطة لتعترف وتسرد كل تفاصيل حياة صعبة وشبه مستحيلة. وهكذا يستطرد حمدى فى طرح أبطاله الهامشيين، لكنهم هم الأبطال الحقيقيون لصناعة الحياة، مرة أخرى يعيد حمدى عبد الرحيم لشخصيات الهامش وجودها، فى سرد سلس وناعم، ودون أدنى صراخ أو هتاف فى الكتابة.