الشهر الماضى استحضر البريطانيون ذكرى أكبر شعراء الإنجليزية فى القرن العشرين بغير منازع «ت.إس.إليوت» أو «توماس ستيرنز إليوت»، وكانت المناسبة حلول يوم وفاته فى الرابع من يناير عام 1965.. وفى الشهر المقبل أظن أن أمة العرب لا بد وأن تتذكر واحدًا من أهم وأشهر وربما من أكثر شعراء هذه الأمة المعاصرين قدرة على الخلود. محمود درويش، ابن فلسطين السليبة، الذى ولد فى 13 مارس 1941 ورحل عن دنيانا فى 8 أغسطس 2006. فأما قدرة «درويش» على الخلود، فمصدرها ليس فقط أنه أبرع وأصدق الذين نحتوا من مأساة وطنه المسروق تحفًا شعرية تستعصى على النسيان، وإنما أيضا لأن «تُحَفه» صارت جزءًا من تراث الجمال والإبداع الإنسانى. قبل أيام كنت أعبث وأنقب فى فوضى كنوز مكتبتى فاعترضتنى «الأرض الخراب»، أروع قصائد «إليوت» والمعدودة ضمن أعظم الإنتاج الشعرى فى القرن الماضى، وعندما فرغت من إعادة قراءتها تذكرت أن لدرويش قصيدة مماثلة تستحضر أيضا «الأرض» فى عنوانها وتتوزع أبياتها وصورها على فصول السنة المختلفة، كما فعل شاعر الإنجليز، لكنها لا تصور «الخراب» الذى فى الأرض، بل البهاء والجمال مقابل خراب النفس والروح عند اللصوص الغزاة. السطور التالية سأتركها لمقاطع من القصيدتين بادئًا بقصيدة «ت.إس. إليوت» تاركا للقراء الأعزاء الحكم، أيهما أجمل وأروع؟ قال إليوت عن «أرضه الخراب»: إبريل.. أكثر الشهور وحشية فهو يستولد زهر الليلك من الأرض الميتة ويخلط الذكرى بالرغبة ويهيج الجذور البليدة بأمطار الربيع الشتاء.. أبقانا دافئين ودثر الأرض بجليد النيان وأهل الدرنات الجافة للحياة الجديدة الصيف.. فاجأنا زاحفًا نحو (بحيرة) سترامبر جنزى بزخات المطر.. فاحتمينا بممشى الأعمدة ثم تابعنا تحت نور الشمس إلى حديقة «الهوفا جاردن» شربنا القهوة.. وتحدثنا نحو ساعة ما نفعها الجذور إذا تشابكت وتصلبت وأى فروع، من هذه الحثالة الصخرية، تراها قد تنبت؟ يا ابن آدم.. أنت لا تملك الجواب.. ولا تستطيع تخمينه فليس فى عقلك غير كومة من المشاهد المشتتة هنا حيث الشمس تلفح والشجرة الميتة لا تمنح مأوى وصرصار الليل يمنع الراحة وعلى الصخر الجاف لا تشاهد أثرًا لماء فقط.. هناك ظل تحت هذه الصخرة الحمراء فتعالَ تحت هذه الصخرة.. وسأريك شيئًا مختلفًا عن ظلك فى الصباح الذى يعدو خلفك وعن ظلك فى المساء الذى يهب لاستقبالك سأريك الرعب. انتهى مقطع قصيدة إليوت، وإليك ما قاله محمود درويش فى «قصيدة الأرض»: فى شهر آذار «مارس».. فى سنة الانتفاضة قالت لنا الأرض أسرارها الدموية فى شهر آذار مرت أمام البنفسج والبندقية.. خمس بنات وقفن على باب مدرسة ابتدائية واشتعلن مع الورد والزعتر البلدى افتتحن نشيد التراب دخلن العناق النهائى آذار يأتى إلى الأرض ومن باطن الأرض يأتى ومن رقصة الفتيات البنفسج مال قليلا ليعبر صوت البنات العصافير مدت مناقيرها فى اتجاه النشيد وقلبى أنا الأرض والأرض أنت خديجة لا تغلقى الباب لا تدخلى فى الغياب سنطردهم من إناء الزهور وحبل الغسيل سنطردهم من حجارة هذا الطريق الطويل سنطردهم من هواء الجليل وفى شهر آذار، مرت أمام البنفسج والبندقية خمس بنات سقطن على باب مدرسة ابتدائية للطباشير فوق الأصابع لون العصافير فى شهر آذار قالت لنا الأرض أسرارها أُسمّى التراب امتدادًا لروحى أُسمّى يدى رصيف الجروح أُسمّى الحصى أجنحة وأُسمّى العصافير لوزًا وتين وأستل من تين الصدر غصنا وأقذفه كالحجر.. وأنسف دبابة الفاتحين