الفقراء يحبون الله.. فهل يحبهم الله؟! «إن الله يحب الفقراء، بدليل أنه جعلهم أغلبية فى هذا العالم».. لا أتذكر، أين قرأت هذه الجملة، لكنها رغم مرارة السخرية فيها، فإنها تثبت صحتها يومًا بعد يوم. ستة أفلام من دول مختلفة من بين ستة عشر فيلمًا قصيرًا فى ثلاث مجموعات من المسابقة الدولية، شاهدتها ضمن عروض الدورة السادسة والثلاثين لمهرجان كليرمون فيران للفيلم القصير، كان محورها الفقر والفقراء.. يختلف البشر والفقر واحد.. تختلف البلاد ويتشابه الفقراء فى البؤس والألم والعوز والشقاء. قبل أن ينطق أبطال فيلم 140 Drams، أتحدى أى مشاهد مصرى لم ينخدع فى بداية الفيلم متصورًا أنه فيلم مصرى أبطاله أحد سكان المساكن الشعبية المنتشرة فى أحياء مصر ومدنها المختلفة، لكن ما إن ينطق أبطال الفيلم، حتى نكتشف أنه فيلم أرمينى! يبدأ الفيلم بامرأة تهدهد رضيعًا جائعًا، ثم تصرخ فى وجه الزوج العاطل عن العمل، قائلة له إن البيت خال من الطعام تمامًا، يتركها الزوج ويخرج، فتقرر أن تنقل غضبها إلى طفلها الثانى الذى يلعب كرة القدم مع أصدقائه فى الشارع، يدخل الطفل إلى المنزل، ويخلع حذاءه فى مكان غير الذى خصصته الأم لخلع الأحذية.. يعتذر لها، ويرجوها أن تتركه يلعب قليلًا.. تعطيه 140 درامزًا أو درهمًا أرمينيًّا، هى آخر ما تمتلكه من نقود، ليشترى زجاجة حليب لشقيقه الرضيع، يقول لها: هل من الممكن أن أشترى بعض الحلوى؟ تنهره، فيغضب، ثم تندم وتمسح على رأسه وتحتضنه. يذهب الطفل إلى السوبر ماركت، فيجد أن سعر الحليب أعلى مما يمتلكه من نقود، يدخل أحدهم ويبلغ البائع أن فرق التفتيش عن الأسعار، أشبه بحملات التموين على المحلات، ستمر الآن، فيقرر الرجل أن يغلق المحل ويقف خارجه حتى تمر حملات التفتيش بسلام.. الطفل الآن فى المحل بمفرده.. يترك ال140 درهمًا ويخبئ علبة الحليب فى قميصه، ولا يأخذ أى قطعة حلوة له، رغم أنها متاحة أمامه، ويفتح باب المحل من الداخل ويخرج. يتوجه الطفل إلى المنزل حاملًا الحليب.. يخلع حذاءه هذه المرة بحرص شديد فى المكان الذى خصصته الأم لذلك، ويجلس مبتسمًا وراضيًّا عن نفسه.. تسأله أمه: هل تريد أن تلعب مع أصدقائك الآن، وينتهى الفيلم وهو يقول لها: لا.. لن ألعب. كبر الطفل قبل الأوان، وعرف وهو الطفل الصغير أن لا مكان للفقراء فى هذا العالم إلا بالتحايل، فصاحب السوبر ماركت تحايل حتى لا يتهم فى قضية «تموين» أو غش تجارى أو خلافه، والطفل تحايل وسرق علبة الحليب، لكنه ترك ما يملكه مقابل ما سرقه.. مفاهيم الشرف والأمانة تتبدل تمامًا أمام الفقر والعوز والحاجة. ومن بيرو يأتى فيلم kay pacha، الذى تمت ترجمته إلى الإنجليزية بone picture أو صورة واحدة.. حيث تعيش أسرة مكونة من زوج وزوجة وطفلتين فى أفقر قرى بيرو، يترك الزوج المنزل بعد مشاجرات مع الزوجة، لعدم تمكنه من الإنفاق على البيت، لاحظ تشابه البشر وردود فعلهم فى أثناء خلافاتهم وصراعاتهم عندما يكونون فقراء، البنتان الفقيرتان تعملان فى مجال التقاط الصور مع السائحين بالزى الرسمى للهنود الحمر، خصوصًا أنهما تنحدران من دماء السكان الأصليين للأمريكتين.. كانت الأم ترغب فى أن تكمل الفتاتان تعليمهما، لكن هروب الأب حال دون ذلك، وينتهى الفيلم بمشهد للأم وجارتها وهما يخيطان ثوبًا زاهيًّا لترتديه فتاة جديدة، أصغر من بطلتى الفيلم، لتعمل فى نفس المهنة.. مهنة التقاط الصور مع السائحين. فيلم Fitri أو «عيد الفطر» وهو فيلم إندونيسى.. هذا الفيلم ربما سيرهق ويزعج بعض المرهفين المتدينين، شكليًّا، وبعضًا ممن قتلوا ضمائرهم فى بلاد ينتهك فيها الفقراء روحًا وجسدًا. يبدأ الفيلم بشابة مشرقة تنشر ملابسها الداخلية فى شرفة، لنكتشف بعد ثوانٍ أنها عاهرة تعيش مع قوادة.. تلك العاهرة الصغيرة قررت أن تزور أهلها فى عيد الفطر، بينما القوادة تقنعها بالبقاء، خصوصا بعدما أعجب مالك المنزل بها، وهو يريد قضاء ليلة معها. تصمم العاهرة الصغيرة على زيارة أهلها فى عيد الفطر، وتتحايل القوادة وتخدعها وتتفق مع أحدهم ليسرقها، قبل وصولها إلى الأوتوبيس الذى سيقلها إلى أهلها. حتى العاهرات الفقيرات البائسات يحتجن إلى لحظة تطهر، ولن يتراجعن عنها إن كن ملحات فى طلبها.. ينتهى الفيلم بالعاهرة الهاربة من ماضيها بمشهد لها وهى مطاردة.. يتلقفها أحد ساكنى الشوارع ويجرها على شريط القطار، هاربًا بها على عربة متهالكة.. مشهد عذب فى فيلم مؤلم، لشاب بائس يجر أمامه فتاة أكثر بؤسًا لينقذها من المجهول الذى يطاردهما. وليس أكثر انحطاطًا من الفقر.. إنه يحول البشر الساعين إلى الحياة إلى حيوانات تنتهك الحياة، بأيدى أغنياء عاشقين لمتعة المشاهدة و«الفرجة» على فقراء يتطاحنون، بينما يستمتع هذا الثرى.. الفيلم الرومانى Colectia de Arome، يحكى قصة أسرة مكونة من أم مريضة وأب عاطل عن العمل وطفل نبيه وواعد.. يجهز الأب ابنه لمعركة يحصل خلالها على مئة يورو، بينما يجهز الابن نفسه بالتدريب، لخوض المعركة نيابة عن أبيه الذى اتفق على خوض المعركة. فى إحدى بقاع الأرض، وحيث إحدى قرى رومانيا الفقيرة، يقرر أحد الأغنياء عقد مسابقة قتال بين أطفال القرية، ومن ينجح فى شل حركة خصمه يفوز بمئة يورو، فقط ليستمتع هذا الثرى بالمشهد من خلف زجاج سيارته المرسيدس! عمومًا فاز الطفل بطل الفيلم بالمئة يورو واستلم والده المبلغ.. لكن، كيف نطمئن ونسعد فى عالم يحمل كل هذا الكم من البشاعة؟! A tropical Sunday.. هل سمعت عزيزى القارئ عن دولة اسمها «موزمبيق».. إنها فى نفس القارة التى تنتمى لها مصر «إفريقيا».. «يوم الأحد الاستوائى».. فيلم موزمبيقى، يحكى عن ثلاثة مشردين «طفلة وشقيقها الولدين»، يتجولون فى مدينة ملاه.. يشحذون ويتوسلون، تماما، ويا للعجب، كما يشحذ أطفال الشوارع فى مصر، لكن أبطال الفيلم ليس هدفهم الأكل ولا سد الجوع.. هم فقط يتمنون التمتع كالباقين بمدينة الملاهى.. يدخل أحدهم مسابقة للرقص فى مدينة الملاه ويفوز فيها، وينتهى الفيلم بالثلاثة وهم يلهون بتذاكر مدفوعة فى مدينة الملاهى التى كانت حلمًا بعيد المنال عنهم. وكان ختام يوم أول من أمس لأفلام المسابقة الدولية فى مهرجان كليرمون فيران للسينما القصيرة مروعًا، بفيلم وثائقى من بوليفيا عنوانه «Minerita» عن عمال مناجم الفضة والزنك فى أحد مناطق بوليفيا.. يتناول الفيلم قصة النساء فى هذه المنطقة الفقيرة الخالية من الأمن، الذى يتولى كل فرد فيها تأمين نفسه.. حتى إن إحدى بطلات الفيلم تفتخر بتصنيعها قنبلة يدوية لإبادة أى شخص يحاول مهاجمتها! تتساءل إحدى بطلات الفيلم بعد سردها معانتها مع النوم المتقطع بسبب الخوف من الناس ومن المجهول: هل يحب الله الفقراء فعلًا؟! بعد سؤالها: تشعل شمعة للمسيح فى قلب منجم ربما ستموت بداخله.. الفقراء يحبون الله.. فهل يحبهم الله؟!