دعوة إلى القرّاء جميعًا.. هذه الصفحة بأقلام القراء، إذ يكتبها كل مَن يجد فى نفسه شيئا جديرا بالكتابة، ومن ثمّ القراءة، فكل منا صاحِب تجربة فى هذه الحياة، وكل منا له خبراته المتنوعة، ومن المؤكد أن ثمة قراء يملكون قدرة التعبير عن ذواتهم، وبداخلهم الرغبة فى نشر ما تعلّموه من تجاربهم الإنسانية، وما عانوه فى خبراتهم الحياتية، حتى يستفيد الآخرون منها، وهذه -كما تعلمون- هى رسالة الكتابة. الانفجار العظيم طبعًا أنا لا أكتب لكم عن نشأة الكون، ولكنى أتحدث إليكم عن أهم حدث فى حياتى، فقد تغيرت من الداخل، كما تبدلت حياتى تمامًا يوم أن عرفتها، واقتربت منها، ويوم أن قررنا أن لا نفترق أبدًا مهما حدث فى هذه الدنيا من أحداث جسام! والحكاية بدأت، فى ما يبدو لى، من يوم مجيئى إلى هذه الدنيا، إذ وُلدت فى بيت ممتلئ بالأطفال، وأمى كانت من النوع الذى لا يهتم بأى شىء فى هذا العالم سوى بنفسها! أما أبى فكان كثير السفر، وكان أيضًا مشغولًا جدًّا فى عمله، ومن ثم فلم يهتم بى أحد على الإطلاق، ولعل هذا الأمر هو الذى سبب لى نوعًا من الحزن الدفين، فمنذ طفولتى وأنا أشعر بحزن لا أعرف له سببًا، ويبدو أن حزنى هذا كان يظهر فى نظرتى، أو على ملامح وجهى، كما أنه كان يجبرنى جبرًا على الدخول فى حال من السكون والصمت، إذ كنت قليل الحركة، وقليل الكلام جدا، ولذا كنت أسمع أحيانا، سؤال: «إنت زعلان ليه؟» فلا أجد له إجابة! وهكذا أخذ الحزن يتراكم فى داخلى، يومًا بعد يوم، طوال طفولتى، وفى أيام المدرسة الكئيبة. حتى وصلت أخيرًا إلى الجامعة، فدخلتها، يقودنى مجموعى فى الثانوية العامة، مستسلمًا وصامتًا وحزينًا، لأدرس علوما لا أحبها، ولكى أتخصص فى مجال لم أختره! وكان يمكن أن تستمر حياتى على هذا المنوال، لولا أن حدثت، فجأة، المعجزة الكبرى، حين تم اللقاء الذى جمعنى بتوأم روحى، ولم أك أدرك، يومئذ، ما سيترتب على هذا اللقاء العادى، بين طالب وطالبة فى داخل مدرج مزدحم بالكلية، ووسط ضجيج مزعج فى لحظات الخروج العشوائى للطلاب، لكن روحى وروحها حلقتا معًا بعيدًا عن هذا العالم القاسى، ففى لحظة واحدة، أصبحنا كيانًا واحدًا فى مواجهة حشود عمياء، تتدافع بقوة، وتدفعنا بلا منطق، وبلا ضرورة، سوى أن تجعلنا نُدرك أن كلًّا منا ينتمى إلى الآخر، فكيف، بالله عليكم، حدثت هذه المعجزة الفريدة؟! تلاقت معًا أربعة عيون حزينة، وخفق قلبان صغيران، لم يخفقا من قبل، وتشابكت أيدٍ فارغة، وتعانقت أفكار بريئة، وانطلقت، لأول مرة، من داخلنا أحلام جميلة! وقد عرفت أنها فقدت أمها وهى صغيرة، وبعد زواج أبيها، تحولت إلى خادمة ترعى أطفال زوجة أبيها، وهكذا تشابه ماضينا، فكل منا لم يتلق ما يحتاج إليه من حنان الأمومة الدافئ، وكل منا لم يجد من يحبه ويعتنى به، ولا حتى من يهتم بأمره! ولعل هذا هو ما جعل كل منا يتشبث بالآخر، حتى لا يغرق فى بحر الحياة الهادر. وفى نهاية العام الدراسى، وأنا أودعها لأعود إلى قريتى، سالت دموعها أمامى، فلم أتمالك نفسى، وأجهشت بالبكاء، أنا الذى لم أبك وأنا طفل، أفاجأ (وأنا شحط) ببكائى بين يديها! لم أحتمل الحياة فى بلدى، وعدت سريعًا إلى القاهرة أبحث عن أى عمل حتى أبقى قريبًا منها، رغم أنى أعلم أننى لن أراها! إذ لا أعرف كيف يمكن لنا أن نلتقى خارج أسوار الجامعة! كما لا يمكننى أن أذهب إلى بيتها، ولا أعرف أى وسيلة للاتصال بها، فأخذت أذهب إلى الجامعة الفارغة، بلا أمل، وأدور حولها بلا معنى، ثم أسير متلفتا حول بيتها الحبيب، وأحيانا أسعى كمجنون فى شوارع سبق لها أن لامستها! إلى أن جاء أول يوم من أيام الدراسة، وعادت إلىَّ، وقالت لى والدموع تملأ عينيها، إنها كانت تعد الأيام والساعات حتى نلتقى، ومن ثم قررنا أن لا نترك شيئا، مهما كان، يفصلنا عن بعضنا، وتعاهدنا أن نبقى معًا إلى الأبد. وبعد أن أنهينا الدراسة فى الجامعة، عملنا المستحيل حتى تزوجنا بأقل التكاليف، وفى غرفة صغيرة فوق السطح! ثم بدأنا معًا رحلة كفاح شاقة جدا، ولذيذة! إذ عرفنا كيف نتفاهم معًا، حول كل شىء، وكيف نتعامل مع أى خلاف يظهر بيننا، إلى أن حملت زوجتى، ففرحت بفرحتها، ورعيتها بكل طاقتى، حتى جاء ابنى إلى هذه الدنيا، فانشغلنا به، وسعدنا بوجوده بيننا، ثم اكتشفت أننى لم أعد الإنسان الذى يشغل قلب حبيبتى! إذ لم تعد تهتم بأى شىء فى هذا العالم سوى بصغيرها فقط! تنام حينما ينام، وتستيقظ حين يصحو، وتقضى يومها كله معه وحده، ترضعه، وتحمَّيه، وتغيِّر له ملابسه، وتلاطفه، وتهدهده، وتلاعبه، وتغنى له، ثم تتكلم معه أيضًا! وهكذا فقدت مكانى الأول فى قلبها، كما فقدت الشعور باهتمامها بى! لقد قرأت ما قاله عالم النفس الشهير «فرويد» عن عشق الابن لأمه، وغيرته من أبيه، لكنى لم أقرأ شيئًا عن غيرة الأب من ابنه! وأنا طبعًا لا أغارُ منه، إطلاقا، ولكنى أريد أن أسترد حبيبتى القديمة، والتى كانت تشعرنى، فى كل لحظة، أنها لا تهتم بشىء فى هذا العالم كله، كما تهتم بى وبمشاعرى وأفكارى. وفى يوم تحدثت معها بصراحة، وطلبت منها أن تهتم بى كما تهتم بابننا الصغير، فنظرت إلىَّ مندهشة، وتعجبت من كلماتى! فأصررت على طلبى، وكررت عليها ما قلته، أكثر من مرة، حتى بدأت تدرك ما أعنيه! لن أقول إنها تغيرت، ولن أقول إنها بدأت تهتم بى نفس الاهتمام القديم، لكن بمرور الزمن، حدث تغير ما بداخلى، وبدأت أنظر إليها، نظرة جديدة، فحين أتأملها وهى تلاعب ابنى وأرى ضحكتهما الحلوة، ونظرتهما المترعة بالحب، يخفق قلبى بشدة، وحينما أراها وهى نائمة إلى جوار ابنى الصغير، تحضنه بحنان، ويحضنها بسعادة، أرى معنى تعبير «الجمال النائم» مجسدًا أمامى، ثم أفاجأ بأنى أحبها أكثر هكذا، وهى أم رائعة تقدم لابنى الحب والعطف والحنان الذى حُرمتُ أنا منه، فى طفولتى، وحرمت هى منه بعد رحيل أمها. إن المرأة حين تصبح أمًّا تشع جمالًا باهرًا، لا يدركه كثير من الرجال. كيف يعيش مرشد سياحى؟! أنا واحد من آلاف المرشدين السياحيين الذين يعانون أشد المعاناة، منذ يناير 2011 وحتى الآن، ولا أحد يعرف متى ستنتهى هذه الفترة القاسية؟! فهل فكر أى مسؤول فى هذا البلد، طوال هذه السنوات الثلاث، فى وسيلة لمد يد العون لسفراء مصر فى الداخل؟! وثمة ملايين عدة يعملون، مثلنا، فى قطاع السياحة، وكل هؤلاء فقدوا مصدر دخلهم الوحيد، فكيف يعيشون الآن فى وسط هذا الغلاء الفظيع؟! وكيف يتحايلون على «المعايش»؟! لا أحد يعلم كيف يستمر ملايين المصريين الغلابة على قيد الحياة فى ظل هذه الظروف الاقتصادية الطاحنة، مما حدا ببعض المتخصصين فى علم الاقتصاد، إلى الحديث عما يسمونه «الاقتصاد السرى فى مصر»! لكنى أستطيع أن أخبركم عن أصدقاء وزملاء لى باعوا بيوتهم، وسياراتهم، وذهب زوجاتهم، وأثاث منازلهم، ومنهم من طلق زوجته أيضا، ومنهن من أصرت على الطلاق من زوجها، ومنهم من نقل أبناءه من مدارس اللغات إلى مدارس حكومية، ومنهم من تركوا البلد بكل ما فيه! ومن زملائى، كذلك، مَن عملوا فى أعمال قريبة من دراساتهم وتخصصهم، فمنهم من عمل فى حقل الترجمة، ومن وجد مكانًا فى بنوك أجنبية وشركات كبيرة، ومنهم من اشتغل فى أى عمل متاح، حتى لو كان لا علاقة له بتعليمه ولا بخبرته، ومنهم من وصل بهم الحال إلى العمل على سياراتهم الخاصة! وهناك من بقوا كما هم، أى بلا عمل على الإطلاق! لكنهم لا يكفّون عن الانهماك فى الحديث عن إخفاق نقابة المرشدين السياحيين فى القيام بدورها فى هذه المرحلة الصعبة، والكتابة (فى الفراغ الإلكترونى) عن أوضاع البلد السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وكيفية إصلاح «الحال المايل»! ولتنظر إلى أسرة مصرية، مكونة من زوج وزوجة يعملان فى مجال الإرشاد السياحى، وعندهم ثلاثة أطفال فى مدارس أجنبية، فكيف يكون حالهم، فى تصورك، بعد أن يفقد الزوج والزوجة مصدر دخلهما الوحيد؟! هناك أُسر مصرية تكافح كفاحًا أسطوريًّا، من أجل أن تستمر فى تعليم أبنائها، وفى مواصلة حياتها بطريقة شريفة، ولا يمكنك أن تفسر كيفية حدوث ذلك بطريقة حسابية أو منطقية، ولكن كما نقول فى أمثالنا الشعبية، عن هذا النوع من الاستمرار فى مغالبة متطلبات الحياة، إنها «بركة دعاء الوالدين»! أما أنا فظروفى أفضل من غيرى، فزوجتى تعمل مُدرسة، ومن ثم بدأت تعطى دروسًا خصوصية، وأخذتنى معها إلى المراكز التعليمية (السنترات)، وبدأت أعمل معها فى التدريس! بعد أن عدت إلى «مذاكرة» كتب المدرسة! ومع ذلك لم نستطع أن نحتفظ لابنى وابنتى بمدرستهما الغالية! والآن، لا أستطيع أن أمنع نفسى من التساؤل، كل يوم، متى ستزول هذه الغمة؟ ومتى سأعود إلى عملى الطبيعى، وإلى حياتى القديمة؟ فقد اعتدت على حياة أخرى، وعلى تعاملات مختلفة، وعلى مستوى من الدخل كان يسمح لى بأشياء كنت أراها عادية، لكنى الآن أتذكرها كأنها حلم من أحلام اليقظة! لقد سمعت منذ يومين عبارة من أحد الزملاء أثارت أحزانى وشجونى، إذ قال لى ونحن نتحدث عن ظروفنا، وأحوال البلد: «ولا يوم من أيام أبو علاء»! إلى هذه الدرجة من اليأس وصل بعضنا؟! ولا أدرى كيف نسوا ما كان يحدث فى عصر مبارك؟! ألا يُدركون أن كل ما نعانيه الآن بسبب فساد نظام حكم عائلة مبارك؟! ولا يصح أن ننسى أيضًا سوء تصرفات المجلس العسكرى، فقد سلمنا بحماقته إلى مرسى وجماعته، الذين أضروا مصر أشد الضرر، لكنى، حقًّا، لا أريد أن أتحدث عن ماضٍ كلنا نعرفه، وإنما أحب أن أتحدث عن المستقبل بنوع من التفاؤل الحذر، ومن خلال الأمل فى تحقيق الاستقرار الأمنى، وإدارة عجلة الاقتصاد، وعودة السياحة. وكل هذا لا يمكن أن يتم، من وجهة نظرى، بدون عمل «اتفاق ما»، ومهما كان هذا الاتفاق ظالمًا، فلا بد منه، وهو سيحدث، فى تصورى، عاجلًا، أو آجلًا، ومن ثم أتمنى سرعة الوصول إليه، حتى يواصل المصريون الطيبون حياتهم الوديعة، كما كانوا على مر العصور، بناة حضارة، وزراعة، وإنتاج، وإبداع، وعمل طيب. المصريون، وأنا واحد منهم، يريدون أن يعودوا إلى حياتهم الطبيعية، وأعمالهم اليومية، يريدون الخبز والحرية، العدالة والكرامة، ومن ثم يسعون بكل قوتهم لتحقيق أهداف ثورتهم العظيمة، وكل من يقف معهم سيرفعونه فوق الأعناق، أما من سيحاول أن يقف ضد الإرادة الشعبية، فمصيره معروف لنا جميعًا.