العاطفة.. تلك الكلمة الجميلة الملعونة التي يقشعر للإحساس بها قلوب المظلومين.. فعندما يحتال الحاكم على محكوميه دائماً في محنته فتكون الحيلة من خلال العاطفة، فإذا أصابت قلوبهم كانت وبالاً عليهم وعبر الظالم بظلمه.. وإذا عبرت كانت نهاية حكم الظالم. استخدمها مبارك في خطابه الشهير كي يعبر بمحنته بعد أن أغلقت في وجهه كل أبواب التوبة والمغفرة من قِبل المصريين الذين خرجوا عليه في ثورة يناير ولم تشفع له كل التنازلات الكبيرة التي كان قد قدمها واحدة تلو الأخرى.. فما كان منه أو ممن كتب له ذلك الخطاب اللعين أن يبتعد عن مخاطبة العقول ويذهب إلى منابع الإحساس عند الشعوب وهي القلوب، فاستطاع من خلال إستعطاف المظلموين أن يقسم مشاعرهم نصفين.. منهم من كلم عقله ومنهم من استحكمت في قلبه العاطفة، فما كان من الأخير سوى أن ألقيت على عينيه غمامة حجبت عنه رؤية الظلم الذي كانت قد جاء به إلى حيث يقف في قلب الميدان، فولّى وجهه تجاه المخرج الذي دخل منه.. فخرج. «عبد الفتاح السيسي» فهم جيداً سيكولوجية الشعب المصري المتسامح المسالم المتذوق للكلمة العذبة التي تمتزج بالعاطفة فتلمس قلبه، ومن ثَم تتملكه تماماً.. فلعب عليها منذ يومه الأول لسماع صوته المبحوح الجميل الذي ينم عن مطرب خسرته آذاننا بدخوله الكلية الحربية. «إن هذا الشعب الكريم لم يجد من يرفق به أو يحنو عليه».. ما أجملها جملة لم تُسمع من قبل منذ خطابات عبد الناصر الرنانة التي كان ينتظرها الشعب لتتمايل الرؤوس يميناً ويساراً وكأنما بستمع لصوت الأسطورة أم كلثوم، وكان يشتاق إلى مثل تلك الكلمات التي تمس القلوب كثيراً المصريون، بعد أن حكمهم رئيس ظهر عليهم قرابة الأربعون مرة لم يقل كلمة كهذه.. كلمة تنسيهم مرارة الأيام ووجع الاحتياجات.. كلمة تُنسيهم قسؤة الأيام التي مرت عليهم يوماً في الظلام الكاحل من قطع الكهرباء.. كلمة تخفف عنهم ساعات الصبر في البنزينات.. كلمة صبر يتيقنوا بها حقاً وصدقاً أن «الإسلام هو الحل».. سيقف التاريخ في حيرة وهو يكتب عن الوزير السبعين في تاريخ الجيش المصري منذ أن أعاد إنشائه «أحمد عرابي» حتى الآن كما لم يقف من قبل أمام أياً من سابقيه .. فهو الرجل الذي راهن عليه الشعب كي ينصفه على رئيسه الذي جاء به وزيراً.. فنصفه.. ذلك الرئيس الذي بغى وطغى وأفترى على شعبه منذ يومه الأول حتى بعد يومه الأخير في السلطة.. ذلك الرئيس الذي أصر في أول يوم على حلف يمين الرئاسة أمام الشعب في الميدان، وما كان من ذلك الشعب سوى أن رمى عليه يمين الخُلع في نفس اليوم بعد عام واحد وفي نفس الميدان. استطاع «عبد الفتاح السيسي» اسمه في صفحات التاريخ بحروفٍ من نور لا يمكن أن يطفئها سواه.. إذا لم يرزقه الله بحسن الخواتيم، واستجاب لوسوسة الشياطين التي توسوس له الأن في كل مكان أينما ذكر فيه إسمه.. السيسي كان قد أعلن مراراً أنه لا ينتوي ولا يريد أن يترشح للمنصب الكبير.. رئاسة الجمهوزية.. كانت المرة الأولى عندما قالها للحاضرين في الاجتماع الذي تم في قصر الاتحادية في يوم الثالث من يوليو الماضي قبيل بيان العزل بساعات قليله ومن هنا نال ثقة الحاضرين جميعاً .. ثم أكد عليها وقت أن طلب التفويض.. ثم قالها بعد ذلك مرتين في مناسبتين مختلفتين... وهذا ما جعل كثيراً من المصريين مطمئنين ومتبنيين للمسار وخارطة الطريق الجديدة التي أعلن عنها السيسي بعد الثلاثين من يونيو.. وكان شريطة هذا عند الكثيرين أن لا يترشح عسكري للمنصب. تفويض الرابع والعشرين من يوليو الذي طلبه السيسي لم يكن مجرد طلب من الرجل المسؤول عن الأمن في مصر يريد شرعية للقتل الذي شرع فيه بعدها بعشرون يوماً.. بل كان طلباً من زعيم يريد أن يعرف مقدار زعامته هذه عند المصريين.. فمكافحة الإرهاب لم تكن يوماً في حاجة إلى تفويض، فهي واجب على الدولة قبل أن تكون رغبة من المواطن. «الشعب ماحدش يقدر يواجهه وإذا ترشحت فيجب أن يكون بطلب من الشعب وبتفويض من جيشى ..فنحن نعمل بديمقراطية».. هذه أخر كلمة ألقاها السيسي على شعبه متمادياً في إستدعاء العاطفة إلى منتهاها.. فلا الشعب يوماً طلب من شخص الترشح لخدمته وتحمل مسؤوليته .. ولا الجيش يوماً كان ديمقراطياً، في إصرار من السيسي إستدعاء العاطفة إلى منتهاها، لتكون هي مشروعه وبرنامجه الوحيد الذي يود من خلاله أن يحكم مصر، ويبدوا أن الفريق العاطفي لا يعلم أن ما هكذا تُدار الدول في وقت عصيب كهذا. إن ترشح السيسي للرئاسة يعني أنه يستثمر وجوده على رأس القوات المسلحة في هذا التوقيت الهام، وتقدير معظم الشعب للدور العظيم التي قامت به في هذه المرحلة ويُسخر لنفسه كل أجهزة الدولة التي قد بدأت فعلاً منذ أمدٍ بعيدٍ في هذا.. ليخلق لنفسه أقصر الطرق التي تصل به إلى قصر الإتحادية.. لكنه في النهابة لن يصل.. فيوماً ما ليس ببعيد سوف يُدرك أن العاطفة وحدها لا تكفي.