أخلاق الزحام.. شاع استخدام هذا المصطلح للتدليل على الانتهازى وغير اللائق من السلوك الذى يظهر بكثرة فى المجتمعات المكتظة بالبشر، والتى يحوز فيها الفرد سنتيمترات معدودة كمجال حيوى له، مطلوب منه أن يتحرك فى إطاره ويعمل وينتج ويبدع ويتناسل ويعيش حياة سعيدة! وقد عبّر الأديب الراحل يوسف إدريس عن أهمية وجود مساحة كافية لكل إنسان حتى تتحقق إنسانيته. والسادة دارسو القانون يعرفون أن هناك حقا إنسانيا فى شكل نصوص قانونية اسمه الحق فى الخصوصية. هذا الحق للأسف معطل فى المجتمعات المزدحمة ولا تملك كل النصوص أن تكفله للمواطن عندما يكون ما يفصله عن جاره هو سنتيمترات قليلة، أو عندما يجلس كل أربعة تلاميذ فى الفصل على دكة واحدة. ومسألة المجال الحيوى هذه ليست ترفا لكنها ضرورة إنسانية لا تحفظ للإنسان خصوصيته فقط لكن تمنحه قدرة على التنفس. وفى هذا الإطار فإننى أحيانا أُصاب بدهشة عظيمة عندما أدخل السينما وتكون معظم المقاعد خالية ثم أجد شخصا يترك كل البراح المتاح ويأتى للجلوس إلى جوارى.. هذا الشخص لا يتعمد أن يضايقنى لكنه نتاج أخلاق الزحام التى تجعل الناس يعتادون التلاصق ولا ينفرون منه، وربما كنت حساسا لهذا الأمر بعض الشىء لدرجة أننى كنت أقوم بقطع تذكرتين إحداهما على الممر عندما يكون الإقبال على العرض كبيرا، لكنى أقلعت عن الفكرة بعدما رأيت الكرسى الخالى الذى دفعت ثمنه يتم شغله ويحتاج إلى معركة لإخلائه! وقد حدّثنى أحد الأصدقاء الأجانب ذات يوم عن سعادته ببعض الصور التى رآها عندنا ومن المستحيل أن يراها فى بلده، وكان من هذه المشاهد التى راقته مشهد خمسة أشخاص على موتوسيكل يجوب بهم الشوارع وهم يضحكون. لقد رأى هذا الصديق أن وطنه يفتقد إلى هذه الحميمية فى العلاقة حيث يصعب جدا أن ترى هناك شخصا فى الأوتوبيس يلامس شخصا آخر مهما بلغت شدة الزحام. ولكن من الواجب أن أقول لكم إن فكرة صديقى هذا قد تغيرت بعدما تعرض للتحرش فى مترو حلوان واقترب منه لدرجة كبيرة جمع من الشباب الصيّع فمنحوه قدرا من الحميمية لم يقدر على تحمله! و من آيات سلوك الزحام أيضا عندنا أنك عندما تكون فى البنك فإن الطابور الواقف وراءك يتابع كل العمليات التى تقوم بها من سحب وإيداع، كما يطّلع على رصيدك وقد يناقشك فى بعض شأنك البنكى أمام الشباك، وكذلك يفعل الواقفون أمام ماكينة سحب آلى بالشارع.. كل منهم يتابع ويتفاعل مع عمليات الآخرين. وهذا كله من النادر أن تلقاه فى المجتمعات المبحبحة المرحرحة التى يطل السكان فيها على البحار والمحيطات، وتمتد أمام ناظريهم المروج الخضراء والجبال ويمتلك كل منهم مسكنا خاصا به، ويستطيع أن يتحرك فى كل الاتجاهات دون أن يصطدم بآخرين سواء فى الشارع أو فى البيت. وقد سمعت من الأديب الراحل حسين فوزى المشهور بالسندباد لكثرة ترحاله أن الناس الذين يسكنون فى مدن مطلة على شواطئ ممتدة يكونون أكثر ذكاء وأكثر استمتاعا بالحياة، ليس فقط للسبب الشائع وهو أنهم يستنشقون اليود المفيد، ولكن بسبب أنهم يرنون إلى الأفق الفسيح فيتسع خيالهم ويحلق فى عوالم لا تحدها ناطحات السحاب ولا دخان المصانع. من أشهر الأمثلة الدالة على سلوك الزحام المثال الذى يصادفه الكثير منا عندما يدخل إلى بناية ويتوجه ناحية المصعد فيجد آخر قد سبقه ودخل المصعد ثم لا ينتظر القادمين أمام ناظرَيْه يريدون أن يصعدوا أيضا، بل يسارع بالضغط على الزر ليستمتع بالركوب وحده.. هذا الشخص قد لا يكون أنانيا فى مواقف أخرى، لكنه وجد فرصة ليخلو إلى نفسه للحظات بسيطة فلم يشأ أن تفلت منه!