هالنى وكثيرون، قصة التسجيلات الخاصة بعدد من النشطاء، فهى صدمة ليس فقط للمهتمين بالشأن العام، ولكن أيضًا لكل مواطن بسيط. حيث تطرح علينا تحديات وأسئلة هامة، تتعلق بالمرحلة القادمة، التى نتطلع أن يحكمها الدستور والقانون حقيقةً. فهل عدنا إلى الدولة البوليسية، أم تلك كانت الدولة البوليسية التى ولت؟ هل تُفعّل القوانين، أم تُنتهج ممارسات تنتهك الحقوق الدستورية للمواطن؟ متى تُحترم كرامة وخصوصيات الناس كما نص عليها الدستور؟ ومتى تجرم إذاعة تسجيلات الناس، حتى وإن كان أمر التسجيل قانونيًّا؟ أين الميثاق الأخلاقى للإعلام؟ متى تفعل القواعد الدستورية والقانونية والأخلاقية، ضمانًا لحماية البلاد والعباد من أى عبث، ومن المسؤول (المسؤولون) أمامنا عن كل ذلك؟ اليوم يسود جدل حول، هل تمت التسجيلات بإذن أم لا؟ هل يعتد بها لمساءلة أبطالها؟ أم مساءلة من قام بتسجيلها، ومن سربها، ومن أذاعها؟ وما أثر تلك الفضيحة على سمعة مصر اليوم؟ تأتى التسريبات، مواكبة لإتيان الإدارة الأمريكية لنفس الفعلة، ليس فقط التنصت على مواطنيها، بل على العالم كله، بمن فيهم الأصدقاء المقربون. ويعلن تباعًا عن دول أخرى تتنصت على مواطنيها ومواطنين غيرها. فهل يمكن لأى طرف (بيته من زجاج) استخدام التسريبات للضغط على مصر، وهل تُضَم التسجيلات لحملة الإخوان بالداخل والخارج، لوصم مصر بمعاداة الديمقراطية، وضرب ثورة يونيو! صراحةً لا يشغل هذا الحوار برمته إلا النشطاء ومن سُرِبَت أحاديثه، أو من يخشى أن تُسرّب، فيفقِد معها المكانة والمزايا التى نالها مع الثورة. لكن إذا تحدثت مع أى مواطن عادى، ستجده غير معنى بكل ما سبق! فما صدمه فعلًا لم يكن، حجم بوليسية دولة مبارك (هو أكتر واحد عارفها) ولا حجم فسادها (لا يزال يدفع ثمنه)، ولا يشغله احترام الخصوصية وسرية المكالمات (لأنه ليس مهمًا لدرجة أن يتنصت عليه أحد). ما صدم المواطن المصرى وشغله حقيقةً، هو كم الفوضى والخداع والنصب التى كان هو ضحيتها. هاله أن أيًّا من أفراد النخبة والنشطاء اللى صدعوه، كان مثاليًّا وأخلاقيًّا ومضحيًّا ومتسقًا فى تعاطيه مع الثورة (كما صوروا جميعًا أنفسهم). الواقع أن المواطن المصرى البسيط المهمش، هو فقط من كان أخلاقيًّا ومثاليًّا، هو من صدق حقيقةً فى الثورة، التى حولته إلى كائن اجتماعى إيجابى، لا يفكر فى نفسه وحقوقه فحسب، بل يتضامن مع حقوق الجميع. آمن بمبادئ الثورة: خبز، حرية، كرامة إنسانية، عدالة اجتماعية. صَدق بكل إخلاص، وسار وراء النخبة بكل امتنان وثقة وإخلاص. اليوم يشعر هذا المواطن بأنه قد خُدِعَ، وأنه لم يكن إلا ساذجًا. واليوم يكلم نفسه، مثل ناظر مدرسة المشاغبين «يعنى ابنك إنت، يبيع لى البتاع دا هوه ويقولى دا بيقشر لب»، لا يستطيع أن يصدق أنه صدق! اليوم يستمع إلى الحوارات الحقيقية لنخب استفادت من الثورة أيما استفادة (مال وشهرة ومكانة واحترام وتقدير)، وهو ما زال يلهث وراء حقوقه البسيطة، ولم يجنِ منذ اندلاع الثورة إلا شعارات! صدمه كم التفاهة والسطحية والانتهازية، والازدواجية، التى ظهر بها البعض، ممن اعتقدهم يعملون من أجل الثورة والبلد. عرفتم ليه الناس لن تهتم بحوار النشطاء عن مدى قانونية أو أخلاقية التسجيلات؟ لأنهم يبحثون عن أثر الثورة الإيجابى، فيجدونه على تلك النخب، أما هو فما زال يدفع الثمن، فالأثر السلبى يقع عليه وأولاده ومستقبلهم. يؤمن المواطن البسيط أن الحق والمساواة والحرية والعدالة الاجتماعية، هى السبيل لتحقيق الكرامة الإنسانية، والحياة كريمة له وأسرته. لكنه أدرك اليوم أن ذلك لن يأتى بتلك النخب التافهة، الأنانية والمصلحية. لن تنهض البلد بهؤلاء بل ستستمر فى التراجع، ولن ينقذها إلا أُناس حقيقيون أمناء على البلد، يخرجون من بين المهمشين والبسطاء الشرفاء، الذين صدقوا فعلًا بالثورة، وانتظروا تحقيق أحلامهم معها. إن كان بيننا فعلًا أحزاب ومؤسسات مجتمع مدنى حقيقية فعالة ووطنية، ستكون مسؤوليتها، العمل وسط الناس، فى قرى وحوارى مصر، ترفع قدرات شبابهم ونسائهم، وتُعِدَهم بأدوات فعالة للنهوض بأهلهم ومجتمعاتهم، والتعبير عن همومهم وحقوقهم. إذا توجَهَت للناس، ستكتشف أحزابنا ومؤسساتنا النخب الحقيقية، وسنرى النشطاء الحقيقيين من أجل الحرية والكرامة والعدالة، وليس للاستفادة الشخصية. لكن اليوم أيضًا يجب أن يُعقد حوار حقيقى بين الأطراف المختلفة لمراجعة قواعد الصراع السياسى فى الفترة الماضية، ووضع قواعد تلتزم الدستور فى المرحلة القادمة. قواعد تضمن احترام وتفعيل القوانين من كل أجهزة البلد، وأن تكون كرامة وحقوق المواطنين هى الأساس لحماية الوطن وصونه.