السنة اللي فاتت رحت أمريكا في منحة للكتاب، بيجمعوا كُتاب من أكتر من تلاتين دولة في العالم ويقعدوهم مع بعض لمدة شهرين، علشان تبادل الخبرات والذي منه. المهم، قعدونا في سكن طلابي متواضع، ناحية منه حلوة بتبص على نهر، وناحية منه داخلية بتبص على منور. الشباك الوحيد في الأوضة قدامه حيطة طويلة جدا. تصحي الصبح تلاقي حيطة، تسهري بالليل تتفرجي على حيطة. لو عايزة تشوفي السما لازم تنزلي راسك تحت مستوى الشباك، وتبصي لفوق، دي الطريقة الوحيدة إن زاوية النظر تلمح حتى من السما من فوق الحيطة. اكتأبت. لدرجة إني قررت بعد أسبوعين إني أقطع المنحة وأرجع على مصر. باقي القصة مش مهم. وملخصه إني مارجعتش والموضوع اتحل. إنما السؤال اللي سألته لنفسي، واللي يهمني في موضوع المقال دا، ليه؟ شقتي في القاهرة برضه مش بشوف منها السما، بشوف قدامي على طول، على مسافة قريبة جدا، عمارة أسمنت ومافيهاش أي علامة جمالية. لكن في مصر مش واخد بالي إن دا ممكن يكون سبب للاكتئاب لأني «قانع» بيه. ولما رحت أمريكا كنت مستني المنظر دا يتغير، وبالتالي رفضته بشدة. ليه؟ والإجابة اللي وصلت لها إننا في مصر كلنا قانعين نبص لتحت. بمعنى إنك لو اشتكيتي من شقتك هاتلاقي ألف واحد وواحدة يقولوا لك: احمدي ربنا، فيه ناس مش لاقية الشقة اللي انتي عايشة فيها دي. وبالتالي، لو اتخيلنا «سلم المجتمع» مرسوما في لوحة هايكون الناس واقفة على درجات السلم، وكل مجموعة على درجة باصة لتحت، على المجموعة اللي تحتها، راسها متنية على صدرها وباصة لتحت. (ما عدا شوية فهموا الخدعة وبصوا لفوق .. شوية قليلين جدا). لكن السياسة الاقتصادية الرأسمالية- سيبك من الدعاية- غرضها الناس كلها تبص لفوق. الناس من كل الطبقات تبص لفوق. علشان كده بتعزز قيم الصعود الاجتماعي وبتمدحها. الأغنياء يبصوا لفوق علشان يزدادوا غنى، والفقرا يبصوا لفوق علشان يدخلوا دايرة الغنى. الإدارة الحديثة للاقتصاد لا تسمح لذوي الأموال «بتكديس الأموال» زي زمان، لأن المال قيمته هاتقل بفعل التضخم. الرأسمالية بتغريهم، وبتقرصهم، علشان يطلعوا فلوسهم ويستثمروها، ولما يستثمروها بيحتاجوا عاملين، وبيحتاجوا من يظهرون مواهب وقدرات، مش لأن الرأسماليين ناس طيبين وحلوين، إنما لأنهم ناس، من مصلحتهم ومصلحة شغلهم واستثماراتهم إنهم «يصطادوا» ذوات المواهب وذويها. وبالتالي، الاقتصاد المدار رأسماليا بيأدي تلقائيا إلى إتاحة الفرص، مضاعفة الفرص، وبيستغل رغبة أصحاب الأموال في زيادة أموالهم ويقول لهم طيب اكسبوا وكسِّبوا. وبيستغل رغبة الصعود الاجتماعي لدى من ليس لهم أموال علشان يقول لهم اجتهدوا، نافسوا، اتعلموا مهارات أكتر علشان يبقى عندكم ميزة تنافسية، وعلشان لما الفرصة تتوفر تكونوا مستعدين. الكلام دا محتاج سياسة أيوه، إنما كمان محتاج منظومة قيمية جديدة. القناعة فيها مش أول حاجة من فوق. مش بقول إنها سيئة، بقول إنها عادية. محمودة في حاجة صغيرة، حفظ التوازن النفسي أمام الرغبة الطبيعية في الصعود والتحسن. لغاية ما يحصل الصعود والتحسن. بمعنى أنها تفكير منطقي يخبرك أن الصعود يحتاج إلى وقت ومجهود، صبر لغاية ما المجهود يؤتي ثماره، ابتعاد عن الانشغال بالنقمة. لكنها أبدا مش محمودة إن كان معناها التكاسل عن بذل الوقت والمجهود في مقابل الرضا بالحالة. دا اسمه كسل. أما نقعد ننفخ فيها ونقول إنها كنز لا يفنى وأبصر إيه، فدا كلام مش حقيقي. الحقيقة إن الغنى مش سبب وحده للسعادة، إنما الغنى مرتبط ب«وسائل» السعادة أكتر من الفقر. إحنا محتاجين الناس تبص لفوق وتشوف العالم. عايزين الرغبة في الصعود الاجتماعي ماتبقاش كلمة خبيثة زي ما إحنا ضمنيا بنوحي. الصعود الاجتماعي محاولة من الإنسانة أو الإنسان لتحسين وسائل حياتهم، وتوفير فرص أفضل لأبنائهم، وزيادة مستوى استمتاعهم بالحياة. الرغبة في الصعود الاجتماعي هي اللي بتخليهم يفكروا ويشتغلوا علشان يكسبوا أكتر، ويكتسبوا مهارات أكتر، ويضيقوا على نفسهم علشان يتعلموا أكتر ويعلموا أولادهم أكتر. دي قيمة إيجابية جدا، لا سبيل لتقدم مجتمع إلا بيها. الفقراء باصين لفوق والأغنياء باصين لفوق، ومصلحتهم المشتركة إنهم يتعاونوا. نفس المنظومة الأخلاقية دي بتخلينا نبطل نحسس الفقيرة بأنها مولودة عظيمة وإنها ملح الأرض لمجرد أنها مولودة فقيرة، وإن إرضاءها- مش توفير الفرص ليها أو غيرها- هو الغرض الاجتماعي الذي تقاس عليه السياسات. بمعنى تاني. لازم نفرق بين «مدح الكفاح» و«مدح المعاناة». خليكي معانا، هانروح الحارة الضلمة دي.