مرت قبل أسبوع ذكرى وفاة جدى الذى لا تجمعنى به ذكريات مشتركة، لأنه توفى وعمرى سنتان فقط. لكنه أحد أكثر الشخصيات تأثيرا فى حياتى. ولد فى عام ثورة 1919، وبدأ حياته العملية طفلا فى الثانية عشرة من عمره، توفى أبوه وترك له أختًا أصغر، فعمل عامل ميزان فى شركة مقاولات. بحلول الأربعينيات، فى مجتمع طامح منفتح مشجع على الفردانية والاستثمار، كان هذا الطفل النابه قد اكتسب من المهارات ما يؤهله لأن يكون له عمله الخاص. كان جدى هذا وفديًّا (الوفد القديم طبعا) بحكم الهوى السياسى الانتخابى لا أكثر. وهذا يعنى سياسيا ما يعنى. وحين جاءت ثورة يوليو كان يمتلك من الأصول ما يزيد على مئة ألف جنيه (وبالتالى كان يصنف على أنه من الرأسمالية الوطنية)، لم يرثها من أبيه الإقطاعى، لم يستول على نصيب غيره، بل كافح من أجلها، وتحدى ظروفا صعبة. أنجب هذا الفتى المفتقد لسند الأب «عزوة» قروية قوامها ستة عشر من الأبناء، منهم ثمانى فتيات، كلهن- إلا اثنتين- يحملْن شهادات جامعية. حين توفى عام 1974 ترك لأبنائه بناية ونصف البناية. أى بناية مكتملة وأخرى لم تكتمل. تقعان فى شارع راقٍ فى حى شركة قلتة فى أسيوط. وبالتالى، كان سكان البنايتين جميعًا خليطًا من أطباء ومهندسين وأساتذة جامعة وضباط جيش وشرطة وسياسيين محليين. نشأت فى البناية المكتملة. بناية غريبة. فى شقة يسكن نسل مرشد عام سابق للإخوان المسلمين، وفى شقة مقابلة شقيق عقيد شرطة مسيحى ذبحه الإسلامجية فى أحداث أسيوط عام 1981. مجرد مثال. إيجار الشقة من تلك لا تتعدى بأى حال سبعة جنيهات فى الشهر. ومطلوب منها أن تنفق على القُصَّر من أعمامى وعماتى القرويين، ومنهم من كانت فى بطن أمها حين توفى جدى وعمره 55 عاما. أن تنفق على تعليمهم، وطعامهم، وكسوتهم، ثم حياتهم الجامعية فى بلد أخرى. بالصدفة فإن عدد شقق العمارة 16 شقة، بعدد الأبناء. وبالتالى فإن الفرد يجب أن يلتزم فى إنفاقه/ا بما يعود عليه/ا من إيجار الشقة. المأساة وضحت. الفتاة التى ولدت فى نفس عام وفاة أبيها، وكانت تملك دخلا قدره سبعة جنيهات فى الشهر، صارت وهى فى السنة الأخيرة من الجامعة، بعد ذلك باثنين وعشرين عاما، لها نفس الدخل، سبعة جنيهات فى الشهر. ليس هذا فحسب. بل إن شقتها مغلقة، لأن «مستأجريها» من الموظفين الكبار صارت لهم بناياتهم الخاصة، مكتوبة بأسماء زوجاتهم، أو صار لهم سكن إدارى فى مساكن أعضاء هيئة التدريس، أو هاجروا إلى أمريكا، أو حتى توفوا وتركوا الشقة لأحد أبنائهم. المستأجر أورث ابنه أو ابنته شقة رائعة بإيجار بخس. وأحيانا خليطا من هذا كله. الأب يملك عمارتين مكتوبتين باسم زوجته، يؤجر الشقة فيهما بألف ومئتى جنيه، أو يبيعها تمليكًا بربع مليون جنيه، ويسكن ابنه فى الشقة ذات الخمسة جنيهات. يدفعها لعمى أو عمتى. كان جدى ليبراليًّا، أما أبى المولود فى الأربعينيات فناصرى. أقول له دائما: لا أفهم كيف يدافع إنسان عن شعارات أضرته ضررًا مباشرًا، واضحًا. ولم تفد أناسا يستحقون «التضحية» لصالحهم، وإنما أفادت أناسا لا يستحقون. بل إنها، كونها أتاحت لهؤلاء إغلاق الشقق، أخرجت مئات آلاف الشقق من السوق، وأسهمت فى ارتفاع رهيب فى أجور المبانى. ارتفاع جعل أخى الأصغر وأعمامى الصغار، يستأجرون شققا أقل جودة من شقق أبيهم المغلقة، ويدفعون مقابلها من 200 إلى 300 ضعف الإيجار الذى يتلقونه من شققهم، التى ورثها المستأجرون. هل هذه عدالة اجتماعية؟ أبدًا. هذه دولة فاشلة تريد أن تضمن ولاء القطاع الأكبر من الطبقة الوسطى فى شقّها الكسول، العالة، طبقة الكوتوموتو، تجاملهم على حساب المجتهدين. ترشوهم. وهناك أيضا فى المعارضة نخبة سياسية فاشلة، ومخادعة، تبيع مواقف تحت نفس المسمى، العدالة الاجتماعية، لكى تحصل على تأييد رخيص. يعلم مانحوه وطالبوه، كلاهما، أنه مبنى على ظلم بيِّن، ويخدم ظالمين، كل ميزتهم الكثرة، وضمان الاستقرار للسلطة. نخبة معارضة تحمل الملاك، لا الدولة، التضخم الاقتصادى. باعتبار أنهم الحلقة الأضعف. النتيجة؟ ما النتيجة. «يا سيدتى لو معاكى فلوس حطيها فى بنك، ويا ريت لو بره مصر. لأنه فى غياب العدالة الحقيقية والشفافية، فالدولة والنخبة الكذابة كل ما هايتزنقوا فى قرشين هياخدوهم منك». هذه هى الرسالة السياسية التى تصل إلى المستثمرين، وبالأخص صغار المستثمرين. وعلشان كده البلد دى هاتفضل فى مكانها الذى تستحقه سياساتها. ولو مش مصدقين شوفوا الدستور مكتوب إزاى.