خلال خدمته الحكومية عمل محفوظ فى الجامعة ووزارتى الأوقاف والثقافة ومديرا للرقابة ورئيسا لمؤسسة السينما كان محفوظ مسؤولا عن بيته وبيت والدته فخشى من مغامرة ترك وظيفة محترمة تؤمِّن له حياته ومن هو متكفل بهم عمل نجيب محفوظ فى وظائف عدة، فقد بدأ حياته الوظيفية، كما ذكرت، موظفا فى الجامعة المصرية (جامعة القاهرة)، ثم انتقل إلى العمل فى وزارة الأوقاف مع أستاذه الجليل الشيخ مصطفى عبد الرازق، حين عُيّن وزيرا للأوقاف، وعمل الأستاذ نجيب سكرتيرا برلمانيا لوزير الأوقاف. والشيخ مصطفى، كما هو معروف، من أقطاب حزب الأحرار الدستوريين، بينما الأستاذ نجيب محفوظ ينتمى فى مشاعره وعقيدته السياسية -مثله مثل جماهير الشعب المصرى قبل انقلاب 1952م- إلى حزب الوفد، إلا أن هذا الاختلاف فى الانتماء السياسى لم يكن له أثر فى العلاقة الرائعة بين الشيخ والأستاذ. ويحكى لنا الأستاذ نجيب حين جاء إلى حزب الوفد إلى الحكم، وخرج الشيخ مصطفى من الوزارة، يحكى ما سمعه من الوزير الوفدى، من أن «الوفد» لا ينكل بخصومه، ومن ثم تُرك الأستاذ يعمل فى مكتب الوزير الوفدى، بينما هو محسوب على «الأحرار الدستوريين»! وقد سألت الأستاذ: لماذا لم تعلن فى هذا الموقف عن حقيقة انتمائك السياسى؟ فقال ما معناه: إن كلماته فى هذه اللحظة قد لا تفهم على وجهها الصحيح. لكن مع التغيرات الوزارية، تم نقل الأستاذ نجيب إلى وظيفة تبدو للآخرين عقابية، أو بالتعبير الوظيفى: «رَكنة». وهى وظيفة بسيطة فى مكتبة تابعة لوزارة الأوقاف بالأزهر، وإذا كان البعض قد رأى فى ذلك ما يستوجب أن يواسى «الموظف المركون»، إلا أن هذا النقل قد أسعد الأستاذ، إذ أتاح له أن يكون فى الحى الذى يعشقه، ثم إن وجوده فى المكتبة مع قلة العمل قد سمح له أن يقرأ كما يحب، ومن هذه الكتب التى قرأها (بالفرنسية) فى هذه المكتبة، رواية «البحث عن الزمن الضائع» لمارسيل بروست. وفى هذه المكتبة قضى الأستاذ أجمل أيام الوظيفة الحكومية، بالمقارنة مع أى وظيفة أخرى خلال خدمته الطويلة فى الحكومة! ويذكر الأستاذ أن فصل الشتاء فى هذه المكتبة كان شديدا جدا، إلى درجة أنهم -الموظفون فى المكتبة- كانوا يضعون الكراسى فوق المكاتب اتقاء للصقيع الصاعد إليهم من الأرض! سنوات طويلة قضاها الأستاذ نجيب فى خدمة الحكومة المصرية، وقد بدأها بالعمل فى الجامعة، ثم فى وزارة الأوقاف، ثم عمل فى وزارة الثقافة مع الوزير ثروت عكاشة، وعمل مديرا للرقابة على المصنفات الفنية، كما عمل رئيسا لمؤسسة السينما، وأخيرا عمل مستشارا لوزير الثقافة لمدة عام ونصف العام قبل خروجه إلى المعاش. وإذا كانت أجمل سنوات الوظيفة الحكومية، حين كان موظفا صغيرا فى المكتبة، فإن أصعب سنوات الوظيفة حين وصل إلى أعلى درجاتها، كنائب وزير، وأصبح رئيسا لمؤسسة السينما، فقد كانت هذه الوظيفة تتطلب اجتماعات كثيرة فى المساء، فكان يعمل صباحا ومساء، وبالتالى لم يتح له أى وقت للقراءة والكتابة، ولذلك سعد للغاية بقرار تركه لرئاسة المؤسسة، و«ركنه مرة أخرى» مستشارا لوزير الثقافة. وثمة موقف يبين لنا جزءا مهما من شخصية الأستاذ نجيب محفوظ، فحين أصبح رئيسا لمؤسسة السينما، أصبحت له سيارة خاصة بالسائق، فتنازل عنها! إذ إنه اعتاد -طوال حياته الوظيفية- على أن يذهب إلى عمله سيرا، ويعود إلى بيته سيرا أيضا. وقد وجد أن هذه السيارة الحكومية ستمنعه من ممارسة رياضته اليومية، فتخلص منها فورا! هذا مع ملاحظة أن الأستاذ لم يمتلك سيارة طوال حياته، وإنما فى مرحلة ما، عندما كبرت ابنتاه، ووصلتا إلى سن تعلم قيادة السيارة، ذهب معهما لتعلم القيادة، وتعلمها فعلا، ولكنه لم يشتر لنفسه سيارة خاصة. عالم الوظيفة هل استفاد المبدع نجيب محفوظ من عالم الوظيفة؟ بالتأكيد استفاد الأستاذ من معايشة نماذج بشرية متنوعة، وأنماط إنسانية مختلفة، ومن تأمل حركة الزمن، وأثرها على نفوس الناس وتصرفاتهم. فقد أمضى الأستاذ فى عالم الوظيفة، سنوات شبابه، ورجولته، وكهولته أيضا، إذ بدأ السلم الوظيفى من أوله، حتى وصل إلى أعلى الدرجات الوظيفية. ومن ثم فقد شاهد تطورات عديدة حدثت فى عالم الموظفين وحياتهم، فقد شهد عصرا كان فيه راتب الموظف، مهما كان صغيرا، يعد كافيا لتحقيق ضرورات الحياة، بل وبعض الكماليات أيضا، ثم شهد عصر آخر، كان فيه راتب الوظيفة، مهما كبرت، لا يمكن أن يفى بضرورات الحياة الأساسية! وقد شهد الأستاذ تغيرا مهما حدث على مر السنوات فى عالم الوظيفة الحكومية، فحين عُيّن نجيب محفوظ موظفا فى الحكومة، كانت الوظيفة الحكومية أملا كبيرا بالنسبة إلى كل الناس، المتعلم وغير المتعلم، فالوظيفة الحكومية كانت تعنى الأمان والضمان والاستقرار، بالإضافة إلى الترقى مع الزمن فى السلم الوظيفى، وزيادة راتب الوظيفة. وكان العمل فى القطاع الخاص يعد مغامرة غير مأمونة العواقب، حيث لا أمان ولا ضمان ولا استقرار. ثم مع مرور الزمن، وانقلاب الأوضاع فى مصر، تحولت الحكومة إلى مكان عمل لغير الطموحين، أو لغير المؤهلين للعمل الجاد، وأصبحت أجورها ومرتباتها أقل بكثير من مثيلتها فى القطاع الخاص، ومن ثم أصبح أمل الشباب فى العمل يتركز بعيدا عن مجالات عمل الحكومة المصرية. كما شهد الأستاذ نجيب محفوظ -أيضا- بدايات دخول المرأة العاملة إلى عالم الوظيفة، حين أصبحت المرأة خريجة الجامعة، أو حتى الحاصلة على تعليم متوسط، موظفة مثلها مثل زميلها الرجل، وقد كان لهذا العنصر النسائى أثره الكبير فى تغيير جو العمل، وكذلك حدث تغيير فى شكل وطبيعة العلاقات الإنسانية فى عالم الموظفين فى الحكومة المصرية. وثمة تغيرات أخرى كثيرة حدثت فى عالم الموظفين، فكل ما كان يحدث من تغير فى المجتمع المصرى عبر عقود الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات والستينيات وما بعدها، كان ينعكس -بالتأكيد- فى دنيا الدواوين الحكومية. وثمة نقطة مهمة تراها بوضوح فى عالم الموظفين القائم على التسلسل الوظيفى، والدرجات المالية، والأقدمية المطلقة، وقد أثرتها كثيرا مع أستاذى العظيم، وأعنى بها موضوع السلطة، والمقصود بها طبيعة السلطة التى تفرضها الوظيفة على المرؤوس، وعلى الرئيس أيضا. فهذا التسلسل الهرمى للمسؤوليات إنما يعنى أن هناك من يأمر، وهناك من ينفذ الأمر، وهذه السلطة تغير فى طبيعة الشخصية الإنسانية، وتظهر الكثير من عيوبها الكامنة. وهنا أذكر بعض تعليقات الأستاذ نجيب على مثل هذه المواقف، والتصرفات النابعة من الشعور بالسلطة، والهيمنة على الآخرين، ثم تغير الأمر كليا حين يخرج المسؤول إلى خارج دائرة السلطة، وأثر ذلك التغيير عليه، وعلى طريقة تعامل الناس معه! فقد قال الأستاذ: إن الناس فى مصر يقدسون الكرسى فى ذاته، وبغض النظر عمن هو الجالس عليه، ومن ثم فحين يبتعد -لأى سبب مهما كان- المرء عن المنصب أو الكرسى يفقد فجأة كل شىء، إذ القيمة، والأهمية، والتقدير، والاحترام إنما هو مُنصب على الكرسى ذاته! وثمة حكاية ذات مغزى حكاها الأستاذ عن عالم الموظفين، ففى بداية حياته الوظيفية، كان للأستاذ نجيب زميل أكبر منه فى وزارة الأوقاف، هو رائد أدب الأطفال كامل الكيلانى، وحين عرف الكيلانى أن الأستاذ يكتب القصص والروايات، نبهه إلى ضرورة أن يخفى هذا الأمر تماما عن كل من يعمل معهم فى الوزارة! فقد ذكر له كامل الكيلانى كثيرا عن معاناته الشخصية، ومتاعبه بسبب ما عرف عنه من كتابة الكتب والقصص والروايات، وأنها كانت سببا فى كثير من المشكلات التى تعرض لها فى حياته الوظيفية! كما ذكرت من قبل فقد استثمر الأستاذ نجيب وجوده فى وسط عالم الموظفين أفضل استثمار، وأفاد منه فائدة كبرى، لكننى أرى، ومن خلال تجربتى العملية كموظف لنحو عشرين عاما، أن ما اكتسبه الأستاذ نجيب محفوظ من هذا العالم، كان يمكن أن يحصل عليه فى خلال بضع سنوات، أو أقل أو أكثر، ومن ثم فلا يوجد ما يدعوه إلى البقاء فى عالم الوظيفة، طوال هذه العقود كلها. وهذه واحدة من النقاط القليلة التى اختلفت فيها مع أستاذى الحبيب، فقد كنت أرى أن الأستاذ حين وصل -مثلا- إلى سن الخمسين، فى عام 1961م. كان يجب أن يخرج من عالم الوظيفة، ويتفرغ تفرغا كاملا للإبداع الأدبى. ففى هذه السن -الخمسين- كان الأستاذ قد أصبح كاتبا كبيرا، بعدما أصدر نحو خمسة عشر عملا أدبيا رائعا، منها: «القاهرة الجديدة، وخان الخليلى، وزقاق المدق، والسراب، وبداية ونهاية، والثلاثية، وأولاد حارتنا، واللص والكلاب». وحصل على عدد من الجوائز الأدبية، توجها بحصوله على جائزة الدولة التقديرية فى الأدب. وقد احتفلت بعيد ميلاده صحيفة «الأهرام»، وحضر الحفل محمد حسنين هيكل، وتوفيق الحكيم، وأم كلثوم، ود.حسين فوزى، وصلاح جاهين، وغيرهم من نجوم العصر وكواكبه. فكيف لم يترك الوظيفة، بعد كل ما حققه من نجاح فى الأدب، وفى الحياة؟! سألت أستاذى هذا السؤال أكثر من مرة، وحصلت منه على إجابات وشروح لطبيعة ظروفه وأحواله فى هذه المرحلة من العمر، فقد تزوج وهو فى الأربعينيات من عمره، ومن ثم فعند وصوله إلى سن الخمسين، كان قد أصبح مسؤولا عن أسرة، وفى وقت من الأوقات -كما عرفت من قريب له- كان مسؤولا عن بيتين، بيته وبيت والدته، ومن ثم لم يعد من الممكن أن يغامر ويترك وظيفة محترمة تؤمن له حياته، وحياة من هو مسؤول عنهم. لعل كل هذه الإجابات والأسباب وجيهة جدا، على مستوى المسؤولية العائلية، وعلى المستوى الإنسانى، ولكنى كلما تخيلت أن نجيب محفوظ كان يمكن أن يضيف إلى فنه، ولذاته عقدا كاملا من التفرغ للإبداع الأدبى، ليكتب لنا المزيد من إبداعاته الخالدة، أشعر بأنه قد أخطأ. مع علمى الكامل بأن «لو» هذه لا معنى لها على الإطلاق مع حركة الزمن، وحكم التاريخ. مع ملاحظة أن نجيب محفوظ، بالمقارنة مع غيره من كبار المبدعين على مستوى العالم كله، يعد مبدعا متدفقا فى إبداعه، فهو غزير الإنتاج، ومتألق دائما فى قصصه ورواياته، فقد أصدر أكثر من خمسة وخمسين عملا خالدا من عيون الأدب العربى والعالمى. عالم الأدب والوظيفة فى كثير من قصص نجيب محفوظ ورواياته، نرى تفاصيل عالم الموظفين ودقائقه، فقد استثمر أستاذنا معرفته الدقيقة بخفايا هذا العالم، وقدمه لنا من مختلف جوانبه وزواياه، كما استغله كأرضية صلبة يبنى عليها عالمه الروائى المحكم، لكن الأستاذ نجيب لم يتوقف فى رؤيته الإبداعية عند حدود هذا العالم الضيق، وإنما استطاع الأستاذ من خلال فنه المدهش وإبداعه المبهر، أن يعيد صياغة هذا العالم المحدود، بحيث يتسع ليحتوى معانى العالم فى داخله! فالعلاقات بين الرئيس والمرؤوس فى دنيا الوظيفة، يمكن أن تشير إلى مثل هذه العلاقات فى العالم الخارجى، كما أن المدير الكبير، أو الوزير الذى يأمر فيُطاع، يمكن أن يرمز إلى السيد أو الحاكم فى كل زمان ومكان، وغير ذلك من تفاصيل العلاقات الإنسانية الكثيرة والمتشابكة، التى تبرز لنا حين نتأمل فى دقائق دنيا الموظفين. فقد تعامل الأستاذ مع عالم الوظيفة، مثلما تعامل مع عالم الحارة، فعالم الحارة المحدود، استطاع الأستاذ بفنه العظيم أن يجعله يتسع ليشمل العالم كله، فحارة نجيب محفوظ إنما هى أمثولة مصغرة للعالم أجمع بكل ما فيه من فقر وغنى، ونبل وخسة، وخير وشر. وإذا كان بعض النقاد والدارسين لأدب نجيب محفوظ، قد لاحظوا صغر مساحة المكان الجغرافى الذى يتحرك فيه معظم أبطال قصصه وشخصيات رواياته، إلا أن هذه المساحة الصغيرة يمكن أن ترمز إلى موقع الإنسان فى الكون، وحركته المحدودة على سطح الأرض، كما يمكن لها أيضا أن تشير إلى أمور أخرى أكثر عمقا، وأبعد مغزى. ولننظر إلى عمل واحد فقط من أعمال عميد الرواية العربية، وهو «حضرة المحترم» هذه الرواية الفريدة فى نوعها، وفى طريقة معالجتها لعالم الوظيفة. فبطل الرواية «عثمان بيومى» الذى يسعى طوال حياته، من أجل أن يصل إلى كرسى «المدير العام»، لا ينظر إلى هذا المنصب الكبير باعتباره مجرد درجة وظيفية عليا، ولكن عثمان بيومى، ومن ورائه نجيب محفوظ، يستغل التعبير عن هذا الطريق الطويل من العمل والكد والسعى والكدح، يستغله فى إبراز معان أخرى أكثر عمقا، وأشد نبلا، وأبعد معنى، وأجمل مغزى، إذ يمكن لنا أن نرى من خلال شفافية لغة محفوظ الصوفية، هذا الطريق وكأنما هو طريق عباد الرحمن -من أهل التصوف- فى سعيهم المتواصل نحو الخلاص، ومنصب صاحب السعادة، يمكن أن يرمز إلى السعادة ذاتها، أو بالتعبير الصوفى: درجة كمال العبودية، أو الإنسان الكامل، ومن ثم يصبح الكدح المتواصل، هو كدح لوجه الله تعالى. وهذا المستوى الأعمق، أو الباطن للعمل الأدبى، لا ينفى على الإطلاق المستوى الآخر الظاهر للأحداث المروية، ولكنها معانٍ أخرى جديدة تضاف إلى معانى النص الأصلية، والنص يدل عليها، أو حتى يحتملها، إذ تشير إليها ألفاظ اللغة المستخدمة، دون تعسف فى التأويل. ولنتأمل فى مفتتح هذه الرواية البديعة، ونراجع بروية رؤية البطل عثمان بيومى لحجرة صاحب السعادة المدير العام: «انفتح الباب فتراءت الحجرة مترامية لا نهائية. تراءت دنيا من المعانى والمثيرات لا مكانا محدودا منطويا فى شتى التفاصيل…»، وهكذا تستمر لغة هذه الرواية الرمزية، إذ تتراوح فى إشاراتها بين الباطن الصوفى، والظاهر المادى، من البداية وحتى النهاية. مقالات أخرى للكاتب * نجيب محفوظ * تعذيب وبلطجة! * تهديدات مرسى * البيت * لماذا يكرهوننا ؟! * الملكة الحقيقية