فى كثير من قصص محفوظ ورواياته، نرى تفاصيل عالم الموظفين ودقائقه، فقد استثمر أستاذنا معرفته الدقيقة بخفايا هذا العالم، وقدمه لنا من مختلف جوانبه وزواياه، كما استغله كأرضية صلبة يبنى عليها عالمه الروائى المحكم. لكنه لم يتوقف فى رؤيته الإبداعية عند حدود هذا العالم الضيق، وإنما استطاع من خلال فنه المدهش وإبداعه المبهر، أن يعيد صياغة هذا العالم المحدود، بحيث يتسع ليحتوى معانى كبرى فى داخله! فالعلاقات بين الرئيس والمرؤوس فى دنيا الوظيفة، يمكن أن تشير إلى مثل هذه العلاقات فى العالم الخارجى، كما أن المدير الذى يؤمر فيطاع، يمكن أن يرمز للحاكم فى كل زمان ومكان، وغير ذلك من تفاصيل العلاقات الإنسانية المتشابكة، التى تبرز لنا حين نتأمل فى دقائق دنيا الموظفين. فقد تعامل الأستاذ مع عالم الوظيفة، مثلما تعامل مع الحارة، فعالم الحارة المحدود، استطاع الأستاذ بفنه العظيم أن يجعله يتسع ليشمل العالم كله، فحارة محفوظ أمثولة مصغرة للعالم أجمع بكل ما فيه من فقر وغنى، ونبل وخسة، وخير وشر. وبعض الدارسين لأدب أستاذنا لاحظوا صغر مساحة المكان الجغرافى الذى يتحرك فيه معظم أبطاله، إلا أن هذه المساحة الصغيرة يمكن أن ترمز إلى موقع الإنسان فى الكون، وحركته المحدودة على سطح الأرض، كما يمكن لها أيضا أن تشير إلى أمور أخرى أكثر عمقا وأبعد مغزى. ولنتأمل فى «حضرة المحترم» هذه الرواية الفريدة فى نوعها، وفى طريقة معالجتها لعالم الوظيفة. فبطل الرواية «عثمان بيومى» الذى يسعى طوال حياته، من أجل أن يصل إلى كرسى «المدير العام»، لا ينظر إلى هذا المنصب باعتباره مجرد درجة وظيفية عليا، ولكن بيومى، ومن ورائه محفوظ، يستغل التعبير عن هذا الطريق الطويل من العمل والكد والسعى والكدح، فى إبراز معانٍ أخرى أكثر عمقا، وأشد نبلا، وأبعد معنى، وأجمل مغزى، إذ يمكن لنا أن نرى من خلال شفافية لغة محفوظ الصوفية، هذا الطريق وكأنما هو طريق عباد الرحمن فى سعيهم المتواصل نحو الخلاص، ومنصب صاحب السعادة يمكن أن يرمز إلى السعادة ذاتها، أو بالتعبير الصوفى: درجة كمال العبودية، أو الإنسان الكامل، ومن ثم يصبح الكدح المتواصل كدحا لوجه الله تعالى. وهذا المستوى الأعمق، أو الباطن للعمل الأدبى، لا ينفى على الإطلاق المستوى الآخر الظاهر للأحداث، ولكنها معانٍ أخرى جديدة تضاف إلى معانى النص الأصلية، والنص يدل عليها أو يحتملها، إذ تشير إليها ألفاظ اللغة المستخدمة دون تعسف فى التأويل. ولنتأمل فى مفتتح هذه الرواية البديعة، ونراجع بروية رؤية عثمان بيومى لحجرة صاحب السعادة: «انفتح الباب فتراءت الحجرة مترامية لا نهائية. تراءت دنيا من المعانى والمثيرات لا مكانا محدودا منطويا فى شتى التفاصيل»... وهكذا تستمر لغة هذه الرواية الرمزية، إذ تتراوح فى إشاراتها بين الباطن الصوفى والظاهر المادى، من البداية وحتى النهاية.