كان نيلسون مانديلا لمدة 28 عاما سجينا فى جنوب أفرقيا ، حيث كان قد حُكم عليه عام 1962 بالسجن المؤبد، كان بلغة الأقلية البيضاء ونظامها العنصرى "إرهابيا". وتحول بعد خروجه من السجن عام 1990 ، بلغة نفس النظام ، إلى ما يشبه القديس. يذكرنى هذا بقصة السيد المسيح ، الذى لاحقه الروم وصلبوه ، ثم صنعوا منه قديسا وجعلوا دينه هو الدين الرسمى لإمبراطوريتهم. ويبدو أن هذه الآلية تكررت ولازالت تتكرر بأشكال ودرجات مختلفة على مر التاريخ. ويبدو أن لها علاقة ما بطبيعة آليات القهر ومعادلات السلطة. وربما أيضا إلى حد ما بيقظة ضمير الطغاة أو خوفهم من ثأر ضحاياهم عندما تتغير موازين القوى. كان سعد زغلول مثلا شخصية تستوفى كل الشروط اللازمة لمنحه جائزة نوبل للسلام ومكانة شبيهة بمكانة مانديلا فى الرأى العام الغربى. أو على الأقل بمكانة السادات ، الذى حصل أيضا على جائزة نوبل للسلام. فقد كان نضال سعد ورفاقه من أجل الإستقلال والديمقراطية سلميا مائة فى المائة. لم يحمل فى حياته سلاحا ولم ينضم إلى حركة كفاح مسلح. ولم يدع شعبه الذى كان يعانى من استعمار بريطاني يحمل فى طياته كل صفات العنصرية الأوربية الأم إلى حمل السلاح. حمل بعض المصريين السلاح فى ثورة 1919 التى إندلعت عندما اعتقله الإنجليز ونفوه. ولكنه هو نفسه ظل ملتزما طوال حياته السياسية بمنهج المفاوضات السلمية ، سواء مع سلطات الإحتلال فى الخارج أو فى البحث عن الوفاق الوطنى فى الداخل. وكان لهذا النهج فى تقديرى الفضل الكبير فى صياغة دور وهيكل الديبلوماسية المصرية الحديثة. ولكن سعد زغلول عاش فى زمن آخر شهد ذروة الغطرسة الإستعمارية والعنصرية الغربية. مانديلا شخصية ساحرة وجديرة بكل احترام. هذا لاجدال فيه. ولكن الغرب عندما يكرمه ، بل ويرفعه إلى مرتبة القديسين ، فإنه يمنح نفسه أولا صك الغفران ويحمله وساما على صدره. وهو ثانيا يحتكر تاريخ الرجل فيبرز منه مايشاء ويطمس منه مايشاء. من هذا التاريخ الذى يجرى طمسه مثلا أن مانديلا كان يعتبر إسرائيل دولة عنصرية مثلها مثل النظام العنصرى فى جنوب أفريقيا. وكان يرى الشعب الفلسطينى وشعب جنوب أفريقيا توأمان فى نضالهما ضد العنصرية. ولكن يبدو أن الجانب الأهم فى تكريم الغرب لمانديلا هو أن مشروعه للوفاق السلمى والمصالحة الوطنية لم يمس البنية الرأسمالية للإقتصاد والفوارق الطبقية الهائلة فى جنوب أفريقيا ، بل أبقى عليها كما كانت ، ليتحول نظام الإضطهاد العنصرى إلى نظام اضطهاد طبقى بنفس المعايير تقريبا. والحقيفة المرة التى تعيشها الآن الأغلبية الساحقة لسكان جنوب أفريقيا هى أنهم أولا ، ورغم تحقيق مبدأ المساواة الشكلية فى الحقوق والواجبات ، يزدادون فقرا ، ينما يزداد الأثرياء ثراءًا. وأنهم ثانيا ، وهم أهل جنوب أفريقيا وأصحابها الأصليون ، لازالوا سكانا لهذا البلد ، من الصعب نظرا للفروق الهائلة التى تفصلهم عن طبقة ملّاك الثروة البيض أن تضمهم إلى هؤلاء وتسميهم شعبا.