لا يكفى أن يَمرّ مشروع هذا الدستور بنسبة خمسين بالمئة من أصوات المشاركين زائد صوت واحد، فهذا يوفّر فقط فوزا إجرائيا، أما النجاح السياسى فهو شيئ آخر يتحقق بالمزيد من الإقبال على الاستفتاء وبزيادة مُعتَبرة من أصوات الموافقين بأعلى مما حصل عليه دستور الإخوان، بهذا تنعدم حجة كل متطاول على 30 يونيو! وبمعنى آخر: هذا هو الإعلان الواضح الذى يؤكد بالدليل الديمقرطى المُفحِم رفضَ الشعب المصرى لجماعة الإخوان ولقياداتهم ولحكمهم ولدستورهم، بما يصحح الخطأ الجسيم الذى وقع فيه مسؤولو المرحلة الانتقالية برفضهم غير المفهوم لإجراء استفتاء على خارطة الطريق، مباشرة بعد الإطاحة بحكم الإخوان، ينصّ على موافقة الشعب على إنهاء رئاسة الدكتور محمد مرسى، وعلى إلغاء دستور 2012! وإذا كان هذا حدث فى وقته لأضعف حجج الإخوان ومؤيديهم فى الخارج الذين يلوكون حتى الآن كلاما عن إنقلاب عسكرى ولا يعتدّون بالملايين التى خرجت تطالب الجيش بالتدخل، وقد تعزز الموقف الدعائى لأعداء الثورة بسبب أن موقف الجماهير لم يُترجَم فى شكل قابل للقياس والعدّ بما يدحض نتائج نجاح الإخوان فى الصناديق، وكان الاستفتاء هو أمثل أداة لهذا الإنجاز. وأما الآن، وبرغم كل التحفظات على عدد من مواده، ومعارضة عدد آخر، والمآخذ على استبعاد بعض المبادئ المهمة، فإن هذا الدستور الذى انتجته لجنة الخمسين يستحق أن يحظى بنجاح سياسى، وليس بمجرد تمرير إجرائى، إدراكا للصعوبة البالغة التى اكتنفت وضعه، ولعل أفضل إنجازاته فى نزع ألغام الحكم الدينى التى زرعها الإخوان فى دستورهم، وإقرار بعض الحريات الأساسية التى قيّدها الإخوان، وبات الأمل معقودا على أن تثمر الممارسة السياسية القريبة إصلاحا لبعض العيوب، خاصة فيما يتعلق بالتناقض بين ما ألزم الدستور به البلاد من احترام المواثيق والاتفاقيات والعهود الدولية التى صدّقت عليها الحكومات السابقة، وبين بعض المواد التى تتعارض مع بعض هذه الالتزامات الدولية، مثل: إقرار جواز محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكرى، حتى إذا كانت فى حالات محددة ومحدودة، ومثل عدم المساواة بين المواطنين فى ممارسة شعائر عقائدهم وبناء دور عبادتهم، وقصر هذا الحق فقط على أصحاب الديانات السماوية الثلاثة، وكل هذا يتعارض مع العهد الدولى للحقوق المدنية والسياسية، بل هو يتعارض مع الدستور ذاته الذى يقرّ من ديباجته وفى عدد من المواد على أن نظام البلاد يقوم على مبادئ المواطنة والمساواة بين المواطنين بغض النظر عن أية عوامل أو أسباب، ولا يجوز لمصر الثورة أن تقترف ما من شأنه أن يُخلّ بالتزاماتها الدولية بما يعرضها لمشاكل قد يكون أقلها ضررا الإساءة لصورتها أمام العالم، بل قد يكون مثارا للتهكم على أول سطر فى ديباجة الدستور التى تتباهى بأن مصر هبة المصريين للعالم، لأن هذا، بصراحة ووضوح، يعيق مصر من أن تكون عضوا فى ركب الدول الديمقراطية لتقوم بدورها الخارجى فى مجال الدفاع عن حقوق الإنسان ومناهضة الاضطهاد الذى يتعرض له أصحاب الآراء المخالِفة والأقليات الدينية فى العالم المقهورة من ممارسة حقوقها فى العقيدة وممارسة الشعائر. ومن أهم ما يترتب على إقرار هذا الدستور، أن تخطو البلاد خطوة تساعد على نقلها إلى المسار الصحيح، بتكوين برلمان يمثل إرادة الشعب تمثيلا أفضل بكثير من البرلمان الإخوانى، وبتشكيل حكومة قوية بدعم من الإرادة الشعبية، بما يُمَكِّنها من الخوض فى توفير الطلبات الأساسية بقوة القانون وحسم السياسة، سواء مع اضطرابات الأمن التى تدعمها مؤامرات داخلية وخارجية وثبُت عجز الحكومة المؤقتة عن التعامل معها، وأيضا البدء فى تلبية احتياجات الناس وتوفير متطلباتهم والتصدى للخارجين عن القانون، بعد أن عربد طوال السنوات الأخيرة المتحكمون فى تجارة السلع الأساسية ومعهم مجرمو تهريب عدد من أهم ضرورات الحياة من محروقات إلى سلع استراتيجية وغيرها. وينبغى الاهتمام إلى أن المرحلة المقبلة سوف تشهد أكبر أنواع الخداع من جانب جماعة الإخوان، لأنه لا يمكن تصديق أنهم بصدد مقاطعة الاستفتاء على الدستور أو الامتناع عن المشاركة فى الانتخابات البرلمانية، أو حتى المنافسة على رئاسة الجمهورية، فلديهم خلاياهم النائمة وأعضاؤهم المحافِظون على سرية علاقتهم التنظيمية، وعلينا أن نعترف بخبرتهم الطويلة فى لعبة الانتخابات، خاصة المهام القذرة من الدعاية المسمومة ضد منافسيهم إلى الشعوذة التى تخلط الدين بالسياسة إلى شراء الأصوات إلى التزوير المادى المباشر..إلخ إلخ، وكل هذا مدعوم بأموال طائلة عجزت الدولة حتى الآن عن مراقبتها أو وضع ضوابط لحركتهاّ! إن رفض الإخوان وحلفائهم لمشروع الدستور الجديد مفهوم، لذلك ينبغى على كل من يعارضهم أن يفكر كثيرا إذا رأى توافقا بين موقفه من هذا المشروع مع موقفهم، وعليه أن يُدرك أن تصويته بالرفض أو امتناعه عن التصويت هو دعم للإخوان بعد أن نجح الشعب فى الإطاحة بهم!