أول مرة التقيت فيها أحمد فؤاد نجم كانت قبل النكسة بقليل. جاء إلى «أخبار اليوم» ومعه بعض نسخ من ديوان شعرى صدر له عن المجلس الأعلى للفنون والآداب فى إطار مشروع كان يتبنى فيه الأعمال الأولى للمبدعين. كان «أبو النجوم» قادمًا للقاء الناقد الفنى الشهير الراحل جليل البندارى، الذى كان يزاملنى فى نفس المكتب ليقدم له الكتاب. جلس معنا قليلًا وتناول كوب الشاى وقدّم لى نسخة من الديوان وغادر بهدوء. قرأت الديوان، كان تقليديًّا، ولكن استلفتت نظرى قصيدتان لمحت فيهما محاولة للاقتراب من عالم شاعر مصر العظيم بيرم التونسى: نقلت رأيى لجليل البندارى (وكان أيضًا شاعر أغانٍ متميزًا)، وقرأ الديوان وكتب عنه فى زاوية صغيرة كان يكتبها يوميًّا فى «الأخبار». بعد قليل عاد «أبو النجوم» ومعه ديوان صغير الحجم عن كرة القدم، ما زال موجودًا فى مكتبتى. عندما سألته عن السبب تبين أنه عاشق للكرة، وأن الناشر (أو إن شئت الدقة صاحب المطبعة) اشترط عليه أن يكتب عن الكرة، حتى ينشر له ديوانًا آخر كان قد انتهى منه. غاب «أبو النجوم» فترة، ثم فوجئنا به فى أعقاب النكسة ينفجر كالبركان ليشكّل مع الشيخ إمام هذه الظاهرة الإبداعية النادرة فى تاريخنا. وعلى مدى خمسين عامًا بعد ذلك لم ينقطع أبو النجوم عن الإبداع والشعر والثورة. عندما سمعت أول إبداعاته بعد النكسة كان العجب يتملّكنى. كيف كانت كل هذه المشاعر المتفجرة تختبئ وراء غلالة من الهدوء الكاذب؟ وكيف تحول هذا الشاب الذى كان يبدو كهلًا قبل الأوان.. إلى هذا البركان من العشق والثورة ليظل شابًّا حتى الرحيل؟! عندما ذهب «أبو النجوم» لأول مرة إلى شقة أو حجرة الشيخ إمام فى «حوش قدم» وقام فى آخر الليل ليلقى مفتاح شقّته من النافذة ويعلن أنه لن يغادر هذا المكان، كان يقطع الصلة بما سبق ليدخل عالمًا جديدًا كان من حظّنا أن يدخله لتنفتح أمامه وأمامنا آفاق جديدة من الجمال الرائع. وعندما أعطاه الجميل الراحل فنان الكاريكاتير العظيم حجازى ديوانًا لبيرم التونسى الذى لم يكن قد قرأ له من قبل، كان يقلب حياته رأسًا على عقب. وكان يقول له إن الشعر الحقيقى فى كل مكان آخر هو أقرب إليه من أى مكان إذا استطاع أن يعرفه أو إذا أعطاه الله البصيرة لكى يدرك أن الناس هم الكنز الحقيقى، وأن الشارع هو أصل الحكمة وباب الإبداع وليست قصور الحكام!! مع اندلاع الثورة فى يناير كان «أبو النجوم» يشعر بأنه قد نال أخيرًا ما تمناه وما جاهد من أجله طول عمره. عندما بدأ لصوص الثورة يتآمرون لسرقتها، والمتآمرون يسعون لتدميرها، ظل واثقًا بأن الشباب لن يتخلّى عن أحلامه وأن مصر لن تستسلم مرة أخرى. وعندما نجح إرهاب الإخوان فى الاستيلاء على الحكم لم يفقد إيمانه أبدًا بأن مصر لن تضيع ولن تستسلم. وفى 30 يونيو كان -كالعادة- فى مقدمة الصفوف مؤمنًا بأن مصر ستنتصر حتمًا، لأنها تواجه حكمًا فاشيًّا يجمع بين الإرهاب والغباء كما لم يحدث من قبل!! مصر لا تعطى سرّها للكثيرين، لكنها أعطته ل«أبو النجوم». وإلى آخر لحظة فى عمره ظل «أبو النجوم» صوتًا لأهل مصر، ومقاتلًا فى صفوف الثورة، وعاشقًا لتراب هذا الوطن. عاش «أبو النجوم» فقيرًا ومات فقيرًا، لكنه -فى الحقيقة- عاش ثريًّا بحب الناس، ومات أكثر ثراء وهو يحتضن الثورة التى بشر بها، ويسعد بالشباب الذين راهن عليهم. العزاء لابنته العزيزة نوارة الثورة، ولأسرته، ولكل المحبين له فى مصر والعالم العربى. رحل شاعرنا العظيم «أبو النجوم»، لكنه سيظل حاضرًا بيننا كلما تفتّحت وردة فى جناين مصر.