لسنوات طويلة ونحن لا نكف عن التحذير من جرائم ترتكب فى حق الوطن وتستهدف تدمير ذاكرة الأمة. إحدى هذه الجرائم كان تعمد إهمال الاحتفال بانتصارات هذا الشعب والتركيز فقط على ما يصادفنا من انكسارات أو نكسات. لذلك أسعدنى أن أطالع أمس تصريحات لمحافظ بورسعيد بعودة الاحتفال بواحد من أعظم أيام تاريخنا الحديث وهو يوم 23 ديسمبر. هذا اليوم الذى استطاع فيه شعب مصر أن يغير مسار الأحداث فى العالم كله وأن يكتب تاريخا جديدا لمصر والعرب ولكل الشعوب المتطلعة للحرية والاستقلال. أجيال عديدة لم تعد تذكر هذه الصفحات المجيدة من تاريخ هذا الوطن. كان تدمير ذاكرة الأمة هدفًا لأعدائنا ووسيلة لتمرير واقع مرير من التبعية وضياع الاستقلال وتبديد الكرامة الإنسانية. تحالفت أطراف كثيرة فى الداخل والخارج حتى لا تذكر هذه الأمة أنها قادرة على النصر ومهيأة لصنع التاريخ حين تتضح لها الرؤية وتملك القيادة الوطنية وتعرف كيف تتوحد فى الطريق الصحيح. كان 23 ديسمبر من كل عام شاهدًا على هذه الجريمة التى ترتكب فى حق الوطن، حين تمر المناسبة بلا احتفال يليق بالتضحيات التى قدمناها، وبالانتصار الذى حققناه. كانت مصر فى هذا العام على موعد مع فصل مجيد فى تاريخها. لم يكن قد مضى إلا بضعة أسابيع على إنجاز عظيم وهو خروج جنود الاحتلال البريطانى من قاعدة قناة السويس بعد أكثر من سبعين عامًا من الاستعمار. وبينما مصر تتنسم أولى نسمات الحرية كانت أمريكا تقود الحملة لترث الاستعمار القديم وتفرض الهيمنة على المنطقة. وهكذا تم سحب عرض تمويل السد العالى بقرار أمريكى فرضته على البنك الدولى. ثم كان الرد الصاعق من عبد الناصر حين أعلن تأميم قناة السويس لينهى سنوات من النهب الاستعمارى لثروات الشعوب. ووسط حالة هيستيرية أصابت بريطانيا وفرنسا كانت مؤامرة العدوان على مصر بالاتفاق مع إسرائيل.. ولم يكن أحد يتصور أن مصر قادرة على مقاومة أساطيل وطائرات اثنتين من القوى العظمى فى ذلك الوقت. ولكن مصر فعلتها.. أعلن عبد الناصر من قلب الأزهر الشريف أننا سنقاتل العدوان ولن نستسلم. وصمدت بورسعيد العظيمة للهجوم الكاسح ومنعت جيوش بريطانيا وفرنسا من التقدم لاحتلال قناة السويس. آلاف الشهداء سدوا بأجسادهم الطريق وكتبوا بأرواحهم نهاية العدوان. وقفت موسكو معنا وأنذرت بعقاب المعتدين. وثارت شعوب العالم ضد العدوان ولحق العار بكل من شارك فيه. وحين انسحب آخر جندى من بورسعيد فى 23 ديسمبر كان هذا إعلانا بنهاية آخر إمبراطوريتين تمثلان الاستعمار القديم. وكان الباب قد انفتح لتحرير الشعوب العربية فى الجزائر والخليج من ذلك الاحتلال. وكانت قناة السويس قد عادت لمصر لتفتح للشعوب العربية وغيرها الطريق لاسترداد ثرواتها المنهوبة وفى مقدمتها البترول. وكان عصر جديد عنوانه استقلال الشعوب قد بدأ، وكانت بورسعيد هى العنوان الذى يجسد هذا العصر، وهى الأغنية التى ترددت فى كل أنحاء العالم، وهو يغنى للحرية وكرامة الأوطان. وعندما أطلقت التبعية من جديد وأعطيت أوراق اللعبة لواشنطن، كان طبيعيا أن يتم التآمر على كل ما يذكر المصريين بطريق الاستقلال والكرامة، عوقبت بورسعيد على مواقفها الوطنية، وحرمت أجيال جديدة من أن تعرف تاريخا يجدد طاقتها على الإنجاز فى كل المجالات. ومع ذلك ظلت بورسعيد تختزن قدرتها على المقاومة، وحين تصور المعزول مرسى أنه قادر على قهر إرادتها بفرض الطوارئ وحظر التجول وقتل خمسين مواطنا فى يوم واحد، كان الرد هو التحدى، وكان التوحد بين شعبنا فى بورسعيد ورجال الجيش بشيرًا بما سيجد بعد ذلك فى 30 يونيو حين استعدنا الثورة وأسقطنا حكم الإخوان الفاشى. عيد 23 ديسمبر ليس عيدا لبورسعيد، بل هو عيد مصر كلها، وهو يكتسب هذا العام بعدا جديدا، ونحن نسير من جديد فى طريق الاستقلال الوطنى الذى كانت بورسعيد وتضحياتها عنوانا أساسيا له كان لا بد أن تعود إليه الحياة بعد ثورة يناير وموجتها الثانية فى يونيو. والتى أكدت أن القرار فى مصر هو لشعبها وحده. وأن هذا الشعب العظيم الذى انتصر فى 56 وكتب شهادة الوفاة لقوى الاستعمار القديم، قادر دائما على أن يكرر الدرس ويحقق النصر ويهزم كل من يتحدى إرادته. عاد القرار للشعب. عادت لمصر ذاكرة الانتصار.