تحكى قصتنا عن فلاح غلبان استنجد بمشعوذ القرية «ليصرف له» العفريت شمهورش الذى يشاركه داره، ويسرق محاصيله، التى ينهد حيله فى زراعتها وحصادها، ويشفط سمنه وعسله وحليب بقرته، ويهينه ويخيف أولاده، ويهتك عرض زوجته. لكن المشعوذ اللئيم صرف شمهورش وأحضر مكانه عفريتا جديدا أشد قسوة وضراوة. عفريت طفس لم يكتف بكل ما سبق، بل أضاف إليه محاولة انتهاك جسد طفلته البريئة، والزج بالغرباء المسلحين لتسكينهم فى حجرات داره! مرت الأيام وفلاحنا المسكين يعيش فى بؤس أشد مما سبق، وبعد شهور أنهكته المطاردات العفاريتى الجديدة، وتدهور حاله إلى الحضيض، لأنه يدافع فى هذه المرة عن داره خوفا عليه من الضياع، بعد أن كان يدافع قبلا عما يمتلكه بداخله فقط من الخيرات. بمرور الوقت تبدل موقفه وصار مؤهلا لفكرة عودة شمهورش، لأن وجوده كان أرحم من العفريت الجديد! هذا المشعوذ الذى يقتسم الخيرات مع العفاريت يمثل القوى التقليدية القديمة التى من مصلحتها استمرار العلاقة بين أصحاب السلطة وأصحاب المصلحة فى المجتمع. هذا الوضع بالقطع لا يمكن أن يقودنا إلى دولة محترمة. لأن أول خطوة يتخذها شمهورش لضمان بقائه بعد عودته هى إعادة الدولة الأمنية بعد إخفائها بمساحيق التجميل لكى يصنع لها صورة محسنة. غباء الدولة الأمنية يصور لها دائما أن القبضة الحديدية، والقوانين المكبلة لحق التظاهر، يمكنهما فرض الاستقرار، بدعوى إحباط محاولات هدم كيان الدولة. هذا كلام تافة يتجاهل الحقيقة البسيطة التى تقول بوضوح: إن تحقيق المطالب التى رفعتها الجماهير فى ثورتها هى الشىء الوحيد القادر على جلب الاستقرار وإحباط أى محاولات، من الإخوان أو غيرهم، لخلق الفوضى فى المجتمع. على العكس تماما لا تفزع الحكومات الوطنية التى تمارس ديمقراطية حقيقية من وجود التظاهرات ضدها، بشرط سلميتها بالطبع، بل وتتعامل معها بصدر رحب، لأنها تعلم أن الطريق الوحيد لمقاومة القوى المعارضة لها، حتى ولو كانت قوى رجعية وغير ديمقراطية بطبعها، هو العمل باجتهاد لتحقيق إنجازات تلقى قبولا شعبيا واسعا يفرّغ تظاهراتها من مضمونها، ويجعلها تخبو يوما بعد آخر. هذه نقطة لا أعرف لماذا لا يفهمونها حتى الآن؟ تأييد الشعب لقائد جيشه لحمايته لوطنه من مخاطر الانزلاق إلى مستنقع حرب أهلية لا يعنى أن الشعب يجب عليه أن يتحمل الجوع، والمهانة، وغياب الشفافية، وانتهاك قواعد العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص، والصمت على شواهد عودة الدولة القديمة، أو كما أشرت فى مقالى السابق إلى «أن نخرس ونستمتع بألحان أوركسترا العودة إلى الماضى الذى يستخدم عازفى الإيقاع من المطبلاتية، ورموز الانتهازية السياسية، والمواطنون البسطاء الخائفون الذين يقدمون إلينا سيمفونية الشراسة من مقام (صول كبير)». الفريق السيسى لم يؤد إلا واجبه لأنه أقسم على رعاية مصالح الشعب، وحماية وحدة الوطن وسلامة أراضيه. الدولة القديمة التى يصرخون ليلا ونهارا بأنها لن تعود تتأكد شواهد وجودها يوما بعد يوم، لأنها لم تمت منذ قيام الثورة، وتتضح فى الآتى: شراسة الشرطة ضد المواطنين وانتهاكاتها المتتالية لأبسط قواعد حقوق الإنسان. عودة الإعلام الرسمى إلى معزوفاته القديمة الممجوجة التى تبرر للحكومة كل ما تقوم به من أخطاء. القتال غير الدستورى بين المؤسسات فى لجنة الخمسين من أجل تحقيق مكاسب «مُدسترة» تأتى على حساب مبادئ المواطنة. العمل على تمرير الحكومة المؤقتة قانونا يغتال حق التظاهر السلمى. التقاعس عن اتخاذ قرارات اقتصادية عاجلة لا تحتاج إلى بطولة خارقة لتنفيذها مثل التوقف الفورى عن دعم الطاقة الذى تقدمه الدولة للمصانع كثيفة الاستهلاك لتوفر المليارات التى تقتطعها من قوت الغلابة لتصبها فى جيوب المصدرين! هذه عينات تؤكد صدق ما أقول. بالمناسبة لو كنت وزيرا للإعلام أو رئيسا لتليفزيون ماسبيرو لأسرعت بالاتفاق مع الشركة المنتجة لبرنامج باسم يوسف لعرضه على القنوات المملوكة للدولة، لأستثمر تلك الفرصة التى جاءت لى على طبق من ذهب لكى أثبت للناس، على الأقل، أن الدولة تتغير بالفعل وتمتلك الشجاعة التى تجعلها لا تخشى من السخرية، حتى ولو كانت لاذعة، وأنها ترفض الولاء التطوعى الذى يقدمه إليها رجال الأعمال الخائفون، لأنه يجعلها تصغر فى عين المواطن، وينزع عنها المصداقية الدولية التى تقوم (بعجين الفلاحة ونومة العازب) بحثا عنها. أنت لا تتغير إلى الأفضل عندما تردد أمام المرآة كل صباح لقد تغيرت، لقد تغيرت. أنت تتغير عندما تواجه عيوبك ولا تخشى الاعتراف بها والتعامل معها. أعرف أن الجماهير أنهكتها المليونيات والمديونيات، ولكننا نريد دارا بلا عفاريت تتنافس فى اختلاف درجات إجرامها وشراستها فقط! كلهم فى نهاية الأمر عفاريت يشفطون سمن الدار وعسلها وحليبها، ويهينون رجالها ونساءها وأطفالها، ويعرضونها للانهيار والضياع. لن نتنازل عن حقنا فى دولة محترمة.