الكتاب يمكِّننا من رؤية الشاعر.. ويكون باستطاعتنا مراقبته منذ خطوطه وتهويماته الأولى حتى اكتمال القصيدة الطبعة الجديدة من ديوان «أحلام الفارس القديم» للشاعر الراحل صلاح عبد الصبور الصادرة حديثا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب لها مذاق خاص، فرغم أن الطبعة الأولى من الديوان صدرت عن دار الآداب البيروتية عام 1957، وبمقدمة نقدية إضافية للناقد والمبدع بدر الديب، فإن هذه الطبعة تضفى ملامح جديدة على هذا الديوان، لأن هذه الطبعة المصوَّرة جاءت بخط الشاعر نفسه، فبالإضافة إلى جماليات خط الشاعر الرقيقة، فهناك نستطيع أن نشاهد الشاعر وهو فى حالة كتابة القصيدة بكل كواليسها. سنلاحظ بعض الشطب والإضافة والتغيير والحذف، نحن نرى الديوان وقصائده فى حالة تلبُّس كاملة، ونرى الشاعر كيف يتعامل مع مادته، ونستطيع أن نراقبه منذ خطوطه وتهويماته الأولى، حتى اكتمال القصيدة فى شكلها النهائى الذى عرفناه وقرأناه وحفظناه وتأثرنا به فى ما بعد. سنرى كيف تغير عنوان قصيدة من «عيناك يا حبيبتى» المشطوبة، إلى «أغلى من العيون»، وهنا نستطيع أن نقرأ الفرق الذى استشعره عبد الصبور، واستقرت ذائقته على اختياره، وسنلاحظ أن عبارات وفقرات أخرى كثيرة تم شطبها واستبدال عبارات وفقرات أخرى بها فى القصائد، هذا يجعلنا نُخضع قراءة القصائد مرة ثانية وثالثة ورابعة، فصلاح عبد الصبور صاحب الرؤية العميقة، لا بد أن تكون إجراءات كتابة القصيدة لديه خاضعة لمنظومة فنية وفكرية عميقة كذلك، ولا بد أن تكون هذه الإجراءات خضعت لعملية تفكير وتأمل كبيرين، ولا مجال هنا لدراسة تلك الإجراءات، ومن الملاحظات الأخرى على الديوان فى طبعته الخطية، أنه لا يتطابق فى ترتيب القصائد مع الطبعة التى عرفناها، وكذلك سنجد أن القصائد مذيَّلة بتواريخ نكاد لا نلحظها فى طبعتها الأولى، وملاحظات أخرى كثيرة تجعلنا شغوفين بإجراء درس نقدى كامل حول هذه الملاحظات البارزة، ورغم كل ذلك فإن الديوان صدر منذ عدة شهور، ولم يلتفت إلى هذه الملاحظات أحد من الناقدين المعنيين. وبعيدا عن كل ذلك فقراءة صلاح عبد الصبور فى حد ذاتها تأخذنا لعوالم بعيدة فى المتعة الروحية واللغوية والفكرية، وتجعلنا نستعيده بشغف وفضول متجدد، فديوان «أحلام الفارس القديم» يحمل طابعا صوفيا ملحوظا، لم يكن بارزا فى كتاباته الأولى، لذلك يعتبر هذا الديوان مرحلة شعرية وفنية وفكرية مركزية فى تجربة عبد الصبور الكلية، وهى مرحلة الحيرة التى عاد فيها الشاعر لمساءلة التراث ورموزه وعلاماته، فيبدأ الديوان بقصيدة «مذكرات الملك عجيب بن الخصيب» التى يقول فيها «لم آخذ المُلك بحد السيف، بل ورثته من جدى السابع والعشرين (إن كان الزنى لم يتخلل فى جذورنا، لكننى أشبهه فى صورة أبدعها رسامه، رسامه كان عشيق الملكة)»، وتتوالى العبارات والمكاشفات الحادة فى القصيدة، لنصل إلى رؤية فكرية وفنية محكمة، وصلاح عبد الصبور تختلف تجربته فى الكتابة عن شعراء آخرين، وكما فصلها وشرحها فى كتابه «تجربتى فى الشعر»، فإنها تشبه الحالة الصوفية فى انبثاقها، ولكنها تخضع فى ما بعد لعملية البناء والتقنين المحكم، لذلك تتضافر فى قصيدته عمليتا التدفق الطبيعى والانفعالى، وبعد ذلك عندما يعود الشاعر من رحلته الانفعالية، ينظر فى القصيدة مرة أخرى لتخضع لكل المواصفات الفنية والعقلية، وهنا تبرز الحرفة عند الشاعر بقوة، وهذا ما نلاحظه فى هذا النص الشعرى الاستثنائى فى تجربة الشعر العربى.