فى مقالى السابق عن الشاعر محمود الشاذلى المنشور بجريدة «التحرير»، كنت ألمحت إلى سيرة الشاذلى السياسية، ونوهت عن اتهامه فى القضية الأشهر رقم 100 لعام 1977، التى كانت تشمل مناضلين وشعراء وكتابا وعمالا، وقلت فى سياق ما كتبت أن محمود الشاذلى هو المتهم الأول فى هذه القضية، مما جعل الشاعر والصديق عزت عامر يهاتفنى موضحا ومصححا لى مشكورا أنه هو المتهم الأول فى القضية، وهذا يجعلنى أقدم التحية لهذا الرجل الذى آثر أن يقول كلمته ويمضى، لا يبحث عن مجد ولا عن دور غير الدور الذى أداه مثل القديسين والرهبان، فى زمن كان الإنكار هو العنصر المهيمن والفاعل فى الحركات السياسية والثقافية. والمعروف أن القضية 100 التى كانت فى أعقاب انتفاضة 18و19 يناير 1977، تضم عددا من الشعراء والمثقفين، حيث كان المثقفون وما زالوا فى طليعة الأحداث السياسية، وكان من أبرز هؤلاء الكتاب صلاح عيسى ومحمود أمين العالم وزكى مراد وإبراهيم عبد الحليم، وزين العابدين فؤاد وأحمد فؤاد نجم وغيرهم. وكان القاضى العظيم حكيم منير صليب هو الذى وقف بقوة فى وجه الحاكم، وقضى ببراءة غالبية المتهمين، وعلى رأس هؤلاء الشاعر الكبير عزت عامر، الذى لعب دورا آخر وهو اقتحام قلعة الشعر الكلاسيكية، وكتابة نموذج لم يكن مألوفا فى ذلك الوقت، وكان يعمل ضابطا بالمعهد الفنى للقوات المسلحة ومهندسا بوزارة التخطيط. بدأ عزت كتابة الشعر منذ عام 1960، ونشر قصائده فى جريدتى المساء والأخبار، ثم المجلة الطليعية «جاليرى 68»، وأذيعت قصائده فى إذاعة الشعب، ثم أصدر ديوانه الأول «مدخل إلى الحدائق الطاغورية» عام 1971 عن سلسلة كتاب الغد، وهذه سلسلة أنشأها كتاب طليعيون يحلمون بعالم جديد، وفى التقديم الذى استهلت به السلسلة إصداراتها نقرأ: «هذه السلسلة يصدرها أدباء لا ينتمون إلى مدرسة فكرية واحدة، ولا إلى مدرسة فنية واحدة، بل هم لا ينتمون إلى جيل واحد، ولكنهم على اختلافهم، تجمعهم ملامح مشتركة، فالفنان عندهم جميعا ليس حرفيا حاذقا فحسب يتعامل مع الشخصية الإنسانية والمصير الإنسانى فى جوانبه المتعددة، والشاعر الذى يستخلص المعنى من التجربة الحسية والانفعالية الجزئية، لا بد أن يحتضن الخلق الفنى عنده موقفا والتزاما»، وهذا الاقتباس من مقدمة طويلة تصدرت الديوان، وتعتبر هذه المقدمة بمثابة بيان يصدر عن جمعية كتاب الغد، التى ضمت فى إهابها الكتاب إبراهيم فتحى ومحمد إبراهيم مبروك وعبد المنعم تليمة وخليل كلفت ومحمد روميش وآخرين، وكان أول إصدارات الجمعية هذا الديوان الرائد فى قصيدة النثر، الذى كتب عنه إبراهيم فتحى دراسة نقدية وألحقها بالديوان، وجاء فى هذه الدراسة: «الشاعر لم يقف عند هذا الرفض الذى كان بمثابة الزى الشعبى الرسمى لشعراء الفصحى، فبذرة الرفض المتضمنة فى محاولاته الأولى لم تذهب هباء فى الأشجان الخانعة والتفلسف السطحى عن مأساة الإنسان المعاصر فى الكون القديم». كان هذا الديوان الأول للشاعر عزت عامر، الذى يهديه: إلى «بلدى.. من أجل هذه الحقائق البسيطة، يمكننا أن نناضل حتى الموت من أجلك» فتحا جديدا فى عالم الشعر، وكان فى ذلك الوقت الهجوم على قصيدة النثر شبه دائم، يقيم له النقاد والشعراء والمثقفون حفلات وحملات شتائم مستمرة، على صفحات المجلات والصحف، ولم يكتب أحد من الشعراء الشباب آنذاك فى هذا الشكل وبهذه الطريقة مطلقا، كانت قصائد أمل دنقل ومحمد إبراهيم أبو سنة ومحمد عفيفى مطر وكمال عمار وحسن توفيق هى الأكثر شيوعا والأكثر قبولا، ولكن ما كتبه عزت عامر هو خروج على هذا الإجماع الفنى والنقدى على نموذج محدد من الكابة، وجاءت قصائد الديوان دون عناوين، ولكنها أخذت منحى ترقيم القصائد، وأيضا هذا ما لم يفعله آخرون، إذن فهذه انتفاضة كاملة لقصيدة أرادت أن تخط لنفسها خطا ليتلقفه آخرون، وتنسب لهم ريادة مكذوبة، ولا يدافع عنها شاعرنا الكبير عزت عامر. ورغم أن أبعادا فلسفية تطوف بالقصائد، فإننا سنلمح لغة واضحة وقوية ومشبعة بحس الأسطورة، وهذا واضح من العنوان غير التقليدى كذلك. لقد فاجأ شاعرنا الحياة الثقافية فى مطلع سبعينيات القرن الماضى، واستقبله المثقفون بطرق مختلفة، وظل هو الملهم الأبعد تأثيرا على كل من خاضوا معركة كتابة قصيدة النثر فى ما بعد، ولكن عزت نفسه كتب ديوانا آخر بعد ذلك، ثم اتجه إلى كتابة القصة، ثم انخرط فى العمل السياسى، وأصدر مجلة ثقافية مهمة تحت عنوان «أدب الغد»، كانت نافذة لكثير من الأدباء الطليعيين والشباب فى الثمانينيات الماضية، وأعتقد أنه اتجه لدراسة التصوف، ثم اتجه إلى ترجمة كتب علمية مهمة، وأدار الملحق العلمى الخاص الذى تصدره مجلة «العربى» الكويتية. حياة ثرية ومليئة بالإنجازات الحافلة بالقيمة، تدفعنا بقوة إلى تقدير هذا الرجل صاحب الرحلة الثقافية والعلمية والأدبية العميقة.