فى المجتمع الآن فائض عنف وكراهية غير مسبوق، أما السبب الواضح لذلك، فهو الحصاد المرير لثلاثة تمزقات وانهيارات متتالية: فشل نظام مبارك، وفشل المرحلة الانتقالية الأولى، وفشل محمد مرسى وجماعته بعد عام واحد من التخبط الشامل، علينا اليوم أن ندفع ثمن هذا الفشل «المكعّب» فى صورة طوفان من الكراهية، والكراهية المضادة، وفى شكل رغبات لمحو الآخر، الكل يرفع شعار: اكرهنى.. شكرا. ما زلت أتذكر ما سمعته على أحد المقاهى، بعد دقائق من كارثة الحرس الجمهورى، تصورت نوعا من الصمت أو التعاطف، ولكنى فوجئت بشعور عدوانى مضاعف ضد الموتى، وسمعت أحدهم يقترح استخدام الدبابات لدهس كل أنصار الجماعة، وتسويتهم بالأرض. لا يمكن المزايدة على موقفى ضد الإخوان، ولكنى انزعجت فعلا من نبرة التشفى الواضحة، ومن دوافع عدوانية، كنت أثق أنها موجودة أيضا عند الجماعة وأنصارها، اقتراح محمد مرسى فى خطاب علنى بأنه يمكن التخلص من القلة من أجل أن تعيش الأغلبية، وجد أصداء مضادة عند أعداء الجماعة، وفى الحالتين كان هناك جرس إنذار أحمر، لمن أراد أن يتفكر ويعى ويدرك وينظر إلى المستقبل. يمكنك أن تشاهد العنف والكراهية اليوم حتى بين الأقارب الذين فرقت بينهم السياسة، وتستطيع أن تراه فى صفحة الحوادث، فى قيام الأهالى بتطبيق ما اعتبروه حد الحرابة بأنفسهم فى القرى، فى مقتل الأبرياء من رصاص مسجل خطر متهور فى إحدى قرى القليوبية، فى نغمة التربص والتربص المضاد، فى تصفيق المئات فى رابعة لخبر وجود أسطول أمريكى سينقذ الإخوان، وسيقضى على الانقلاب، إلى هذه الدرجة وصلت الخصومة؟ وصلنا إلى الفجور واستعداء الأجنبى لغزو الوطن من أجل الكرسى. جذور الحكاية تبدأ من فشل مبارك، كان المجتمع يضطرب ويتأجج بالعنف والكراهية رغم وهم الاستقرار الزائف، وكانت جرائم الكبار والغلابة عنيفة ومروّعة: رجل يقتل أسرة مطلقته، لأنها رفضت العودة إليه، جريمة مقتل سوزان تميم وابنة ليلى غفران وصديقتها، حوادث قتل الآباء والأبناء، الموظف الهادئ الذى ارتكب مذبحة فى أوتوبيس الشركة، ضد زملائه الذين يسخرون منه. انفجر العنف الممتزج بالإحباط فى المرحلة الانتقالية الأولى، وزاد منه التخبط السياسى، وسوء إدارة الثورة، والاستقطاب على أساس دينى، ثم وصلنا إلى ذروة جديدة من العنف والكراهية فى عصر مرسى البائس، بعد أن أصبح الفرز الدينى هو الأساس، ليس فقط للتفرقة بين المسلم والمسيحى، ولكن للتمييز بين عضو الجماعة والمصرى العادى، وبين المسلم السنى والمسلم الشيعى، وأصبح التكفير والتحريض على القتل، والحث على الكراهية، ومحو الآخر، أحد أدوات السلطة فى التمكين. من رابعة والنهضة انطلقت دعوات الإرهاب والقتل، ومن منابر معارضة انتقل الاختلاف حول الأفكار، إلى ما يقترب من دعوات التصفية الجسدية، قرأت على «فيسبوك» دعوات تطالب بعودة تصفيات وممارسات ضد الجماعة دون اتهام أو قانون أو محاكمة، شىء أقرب إلى ما فعله هتلر باليهود! الموقف خطير ويحتاج إلى وقفة من كل الأطراف، أولها فى رأيى تلك الأطراف التى مارست التحريض على القتل، والتى ضحكت على أنصارها بادعاء أنهم يدافعون عن الشرعية، بينما هم يدافعون عن مصالح الجماعة غير الشرعية الضيقة. لا بد أن يفهم المتأسلمون عموما أنهم الخاسر الأكبر من خطاب الكراهية والعنف، مهما كان عددهم، فإن كراهية الشعب ضدهم أضخم وأعظم، استفزازهم للناس وهم فى السلطة، وجد ردا عنيفا من الناس، لا حلّ سوى بالنبذ الصريح للإرهاب، وعدم توفير غطاء له، والاعتراف بما حدث فى 30 يونيو، وتغيير قواعد اللعبة بأكملها بسبب ذلك. لا بد من قواعد جديدة تفصل بين الدين والسياسة، مهزلة تأسيس أحزاب على أساس دينى هى أحد أسباب الكارثة، نريد تفعيل نشاط وزارة نسمع عنها دون أن نراها، اسمها وزارة العدالة الانتقالية، لا بد من فتح كل الملفات والتحقيق فى كل الكوارث التى راح ضحيتها مصريون بعد 30 يونيو، وإعلان النتائج، ومحاسبة المخطئين، كل مرحلة انتقالية كانت تتغافل عن تحقيق العدالة، فتراكمت الكوارث. لا بد من إجراءات عاجلة لتضييق الفوارق بين الغنى والفقير، خطوات ملموسة تقلل من إحساس الفقراء بالتهميش قبل وبعد ثورة اعتبرت العيش والعدالة الاجتماعية من أهدافها، يجب تخفيف الأعباء عن الغلابة، هؤلاء لا يريدون نقودا تبتلعها الزيادة فى الأسعار، ولكنهم يريدون خدمات حقيقية مجانية، مستشفيات تعالج ولا تقتل، فرص عمل فى مشروعات كبيرة وضخمة، تسهيلات فى الاقتراض لمشروعات صغيرة، مدارس تخفف أعباء الدروس الخصوصية. الكراهية والعنف هما أعراض المرض وليسا المرض نفسه، بدأت العلّة بدولة فاشلة قادت إلى مرحلة انتقالية فاشلة أوصلتنا إلى رئيس فاشل، العلّة الحقيقية فى أن الناس اللى فوق لم يشعروا أبدا بالناس اللى تحت، وأن الحكومات لجأت إلى تلبيس الطواقى والتسكين والنصب، أصل المأساة فى أن الكثيرين أصبحوا حول السلطة، وأقل القليل ظلّوا حول الوطن، وهى المعادلة المختلة التى كان يحذر منها المهاتما غاندى. فى أحد مشاهد فيلم «طيور الظلام»، يقول وحيد حامد على لسان عادل إمام: «البلد دى اللى يشوفها من فوق غير اللى يشوفها من تحت»، مصر من فوق واحة من اللون الأخضر والأنوار الملونة والمبانى والجسور، ولكن جولة سريعة فى الشارع وبين الناس تكشف عن وطن مريض وممزق، حادثة واحدة يمكن أن تكشف طوفان الكراهية والغلّ والرغبة المكبوتة فى ممارسة العنف والانتقام. نجاح نظام ما بعد 30 يونيو الحقيقى ليس فقط فى تنفيذ خارطة الطريق، ولكن فى علاج أسباب الكراهية والعنف رغم التركة الثقيلة، ساعتها فقط يمكن أن نتحدث عن مصر «من تحت» لا تختلف عن مصر «من فوق».