لا أعرف حقيقة أول من صك هذا المصطلح «الإسلام الوسطى» الذى صار متداولا بدرجة كبيرة فى الخطاب الإسلامى. الحقيقة لست معنيا بتاريخ المصطلح ولا بالطريقة التى تأسس بها، ولكنى معنىّ بفهمه عبر السياقات التى يظهر فيها، أو عبر الطريقة التى يتم تداوله بها ضمن الخطابات الدينية والسياسية والاجتماعية، لأنه فى ظنى لا وجود حقيقيا للمدلول الذى يدعى الخطاب الإسلامى أنه يقصده حين يتكلم عن الإسلام الوسطى كمصطلح. يستخدم عادة مصطلح «الإسلام الوسطى» كبديل لآخر. آخر لولاه لما كان للمصطلح من معنى. بمعنى آخر ما كان للإسلام الوسطى كمصطلح أن يكون موجودا أصلا لولا وجود إسلام آخر، أو بالأحرى إسلامين. ثمّ إسلامان مرفوضان، لأسباب عديدة، ويبدو أنهما على طرفى النقيض من الطيف الإسلامى. لا يمكن تعريف الإسلام الوسطى دون الإحالة للإسلامَين الآخرين، لا يمكن تعريفه إلا باعتباره نقضا لإسلامَين آخرين. يُعرف الإسلام الوسطى بأنه الإسلام الذى يقع فى المنتصف من إسلامَين يفترض فيهما أنهما إسلامان غير صحيحين، من وجهة نظر الإسلام الوسطى، الذى يقدم نفسه باعتباره الإسلام الصحيح. حيث يلجأ الخطاب الإسلامى للحديث عن الإسلام الوسطى، الذى هو رديف لمصطلح آخر يعرف ب«وسطية الإسلام» كلما ارتفعت أصوات الإسلامَيْن الآخرين، أو بالأحرى الإسلام المتشدد. يتم استدعاء الحديث عن الإسلام الوسطى الذى هو الإسلام الصحيح، لأنه يعبّر عن وسطية الإسلام كى يكون فى مواجهة خطاب إسلامى متشدد ومتطرف. ولأن الإسلام الوسطى كمصطلح يتم استدعاؤه بالأساس لمواجهة ذلك الخطاب المتشدد، فيمكننى الزعم أن ثم صعوبة فى تعريفه إلا بتعريف ذلك الإسلام الذى يواجهه ويتم استدعاؤه لنقضه ولنفيه. الإسلام الوسطى، بالنظر إلى ياء النسب فى كلمة وسطى، يعنى بالضرورة أنه إسلام بين إسلامَين، ولكنهما غير وسطيين، بالضرورة أيضا. مفهوم ضمنا أن أولهما إسلام متشدد ومتطرف ونصوصى وأصولى وعصبى المزاج «الإسلام الحركى الجهادى المسلح يمكن أن يعبر عنه» فما هو ثانيهما؟ بالمنطق يجب أن يكون ذلك الإسلام هو «معكوس» الأول، مما يعنى أنه إسلام أخلاقى وليس حركيا، منفتح وليس منغلقا، ابن عصره وليس ابن النص والتاريخ، باطنى وليس ظاهراتيا، ليس من أفكاره حمل السلاح ولا فرض أفكاره بالقوة. ولكن تبقى المشكلة أن الإسلام الوسطى يدعى لنفسه كل ذلك فى حين أنه من المفترض أن يكون وسطا بين هذين الإسلامَين الآخرين ويقف منهما على مسافة واحدة. فما هو الإسلام الوسطى إذن إن لم يكن هو إسلام متطرف جرى تخفيف حدته وعصبيته، أو إسلام منفتح جرى تقييده والحد من عقلانيته والتضييق على انفتاحه. لنا إذن أن نفترض وجود إسلامَين يقفان على النقيض من بعضهما البعض، وليس للإسلام الوسيط بينهما أن يدّعى لنفسه صفات أيهما. ولكن الخطاب الإسلامى الموصوف بوسطيته يدعى لنفسه طوال الوقت صفات الإسلام العقلانى، باعتباره نقيض الإسلام العصبى، وفى ظنى هذه مشكلة قد تنسف المصطلح من أساسه. بالنظر إلى من يمثل الإسلام الوسطى، حسب الخطاب الإسلامى، يمكن التدليل على صحة هذه الفرضية. أولا يدعى مستخدمو المصطلح فى خطاباتهم خصوصا فى خطاباتهم الإعلامية أن الأزهر، كمؤسسة دينية، هو حارس ذلك الإسلام، كما يتم استدعاء أسماء علماء دين كالشعراوى والغزالى وغيرهما باعتبارهم ممثلين لهذا الإسلام ومعبرين عنه. وفى ظنى أنها أمور تحتاج إلى مراجعات. أولا لأن مراجعة تاريخ الأزهر، تكشف عن تورطه كمؤسسة دينية، فى ترسيخ الفكر السلفى الأصولى النصوصى، الذى هو الأساس النظرى لكل الحركات الإسلامية التى تبنت العنف منهجا. بل إن مراجعة التاريخ تثبت خطأ المقولة الشائعة التى تدعى أن السلفية الوهابية نبت مستحدث فى مصر تم فى سبعينيات القرن العشرين مع عودة العاملين فى بلدان الخليج، وبالذات السعودية. ذلك أن السلفية اكتمل انغلاقها قبلها بسنوات بين جنبات الأزهر نفسه، وليس خارجه، ويكفى مراجعة منجز الشيخ رشيد رضا، تلميذ الإمام محمد عبده، السلفى الإصلاحى، الذى انحرف عن أو انقلب على منهج أستاذه وتشدد فى ما لم يكن الإمام يتشدد فيه، لنتبين كيف تم تدشين منهج السلفية الأصولية فى العصر الحديث، وهى السلفية التى حذر الإمام محمد عبده، رغم سلفيته بالمناسبة، منها، ومن رجالها. أما الشعراوى والغزالى فيكفى مراجعة مواقف الأول من المرأة مثلا، أو من السلطة، ومراجعة مواقف الثانى من الولدين اللذين اعتديا على نجيب محفوظ أو ممن قتل فرج فودة لنعرف أنهما الشعراوى والغزالى ضمن مدرسة كانت، وما زالت، تؤسس نظريا وفقهيا للإسلام الذى من المفترض أنهما يمثلان نقيضه. يبقى أن نراجع مزاعم تقول إن الإسلام الوسطى هو إسلام بين إسلامَين: إسلام متطرف، وإسلام مفرّط، حسب النص «لا إفراط ولا تفريط». لأنه، بداهة، التفريط لا يمكن، حسب الخطاب الإسلامى فى عمومه، أن يكون إسلاما (!). فأى تفريط يُقصد، وفى ما يفرّط فيه؟! كيف يستقيم للعقل أن يكون الإسلام الوسطى وسيطا بين إسلامَين أحدهما مفرّط، ثم فى أى شىء يفرّط هذا الإسلام؟ فإن كان المقصود أن ذلك الإسلام «المفرّط» هو إسلام يفرّط فى مسائل كالحجاب مثلا، أو يتساهل مع المرأة، أو يتسامح مع التدخين وغيره، فلنا أن نعود إلى رأى الإسلام الوسطى فى كل هذه المسائل لنعرف أن موقفه لا يقل تشددا فى مثل هذه الأمور عن الإسلام المُفرط أو المتطرف، وأن الفرق الوحيد بين ما يسمى الإسلام الوسطى وبين ما يسمى الإسلام المتطرف هو فى تعاطى كل منهما مع السلطة، فالأول لا يورط نفسه فى السياسة مثلما يفعل الثانى فحسب. يكتفى الأول بالانشغال بالإطار النظرى الفقهى بينما ينشغل الثانى بآليات فرض هذا الإطار النظرى الفقهى على الواقع حتى ولو بقوة السلاح، مما يعنى أن الأول، حتى ولو ادعى غير ذلك، يوفر للثانى الغطاء الفقهى اللازم لنشاطه الحركى، بينما يتخلى عنه سريعا فى الأوقات التى يتورط فيها الثانى فى مواجهة السلطة مباشرة.