بدا الشغل بسيطًا وسهلاً، غسل الأوانى، وأزال الغبار عن الأثاث والتحف، ونفض السجادة الكبيرة، ثم ذهب إلى الفرن وعاد بالخبيز، واشترى الخضراوات والفاكهة من السوق. وهى طهت الطعام ثم طلبت منه أن يذهب بالغداء إلى أبى حيين. حمل الصينية الضخمة على رأسه، راح بها وجاء.. كل شىء على ما يرام. اشتاق للأكل والراحة والنوم، وحمد الله فى سره، وقال فى نفسه: ليس العمل سيئًا كما ظننتُ. وعما قليل سينعم بالطعام وإن كان قليلاً، وسينعم بالنوم أيضًا. ولكنه لم يأكل، ولم ينم. قالت له: «ستأخذ ابنى حيين إلى السوق، تشترى له الطعام والشراب وتفرجه على الدنيا»، ناولته صُرة بها مئة دينار. وهو اندهش، مئة دينار من أجل طفل! مئة دينار مبلغ كفيل بإطعام أسرة كاملة لمدة أسبوع أو أكثر.. وكيف لها أن تستأمنه على مبلغ كهذا دون ضمانات! ولكنه أخذ الولد، بمعنى أوضح وأدق أخذه الولد. والولد كان عبارة عن كرش ضخم.. والكروش أنواع وأحجام وأشكال مختلفة، منها ما هو مستدير وصغير وكأن الفرد قد ابتلع بطيخة بحالها. ومنها ما هو مترهل وملظلظ وهى كروش السمّنة. ومنها ما هو وراثى كلعنة تطارد صاحبها بصرف النظر عن كميات أو نوعيات الطعام التى يتناولها. أما حيين فقد كان كرشًا خالصًا، كرشًا ضخمًا نبت له رأس وذراعين وساقين، كرش يمشى ويأكل وينكد على خلق الله، كرش واسع حتى خيّل إلى جلال أن بداخل تلك البطن الكبيرة حدائق وحيوانات وناس ترعى الغنم والإبل، وربما نهر يبدأ من حلقومه ويصب فى مثانته! فى السوق أشار الولد ناحية المطعم، وفى صوت أقرب إلى النحيب قال: «آآآآآآ.. آكل.. آكل». ودخلا المحل، واستقبلهما صاحب المحل بنفسه، واختار لهما أكبر وأفضل طاولة، وقال: «يا أهلاً بسيدنا وتاج رؤوسنا حيين». وجلال استغرب من ردة فعل الرجل، وخمّن أنه ترحيب زائد بزبون قد يكون دائمًا. وقال جلال: «أحضر له طبق لحم وطبق خضار ورغيف خبز»، فضحك الرجل مستهزئًا. وضحك العمال أيضًا. وقال بسخرية: «يبدو أنك جديد.. يا خادم نحن نعمل طوال الليل من أجل بطن سيدك حيين.. حيين يا خادم لا يأكل طبقًا واحدًا، إنه يشق ريقه بهذا المحل وأكثر». وعاد للضحك وهو يردد: «طبق لحم وطبق خضار! مسكين أنت مسكين، والله مسكين!». ثم صاح فى العمال: «انزل بطعام سيدنا وتاجنا»، وامتلأت الطاولة بشتى أنواع الطعام: كميات مهولة من المأكولات المختلفة، كميات تكفى لإطعام حى بأكمله. وراح حيين ينقض على الأكل بلا رحمة. وجلال ريقه شرع فى السيلان، ومعدته تحركت جوعًا وشهوة، ومد أصابعه لالتقاط قطعة لحم صغيرة، وهمّ أن يلقى بها فى جوفه فانفجر حيين فى الصراخ، وقال بصوت مزعج: «هااااا.. سأخبر أمى. هااااااااااااا.. سأخبر أمى». خاف جلال، ودون تردد أخرج اللحم من فمه ووضعه مكانه، واكتفى بالنظر إلى هذا المخلوق الفظيع الذى يلتهم اليابس والأخضر. بداخل محل الحلويات حصل نفس الشىء تقريبًا: سخر منه صاحب المحل، وأخبره أن كل هذه الصوانى أعدت خصيصًا من أجل بطن العزيز حيين، وأنه الزبون الأول والمفضل هنا، وأنه -حيين طبعًا- سيدهم وتاج رؤوسهم. وقال أيضًا: «سبحان الله الذى جعل رزقنا ورزق أولادنا فى بطن طفل». غير أن بائع العصير كان له رأى آخر... فبعد أن شرب حيين برميل من التمر وآخر من العرقسوس واكتفى بنصف برميل من عصير القصب -وهذا ليس من عادته كما عرف جلال من بائع العصير، فهو دائمًا ما يتجرع ثلاثة براميل الواحد تلو الآخر- علق بائع العصير: «هذا طفل ممسوس من الجن... ممسوس ورب الكعبة!». وفى طريقهما إلى البيت عاد الصوت المزعج يخترق أذن الجائع. «هاااا... شيلنى... هاااا.. شيلنى». كيف لفأر أن يحمل فيلاً؟ ونظر جلال له بغيظ. ولكن الفيل أصر. «هااا.. شيلنى.. شيلنى». وظل يرددها حتى خيّل إلى جلال أنه لن يسكت أبدًا.. قال فى نفسه: الأمر لله من قبل ومن بعد. وحمله كأنه يحمل جبلاً، ومشى به مترنحًا وحزينًا ومتعبًا كأن هموم الخلق جميعًا على كتفيه. أما حيين فقد نام وكأنه طفل حقيقى، طفل طبيعى أكل وشرب وهده التعب فنام نومًا عميقًا! *** لدى الباب فعلها حيين، تبول وتبرز على جلال.. برّكة من الأوساخ. لعنه جلال ولعن الدنيا والقدر. فتحت هى الباب على صراخ جلال. سَألتْ: «ماذا حصل؟». بصوت ملأه الغيظ أجاب: «سيدى حيين تبول وتبرز علىّ!». «وهل يغضبك هذا يا خادم؟». لم يتمالك نفسه. «يغضبنى.. ويغضب أى إنسان لديه كرامة!». «ادخل يا خادم.. ادخل». دخل جلال والرائحة الكريهة تفوح منه، وتمنى أن يتخلص من جلبابه، وأن يغتسل جيدًا، وتمنى أيضًا أن يشترى جلبابًا جديدًا. قال لنفسه: حين ترجع أم حيين من المطبخ سأطلب منها مالاً، وسأطلب منها أن تأذن لى أن أذهب إلى الحمام الموجود بالسوق، أغتسل وأعود نظيفًا. وفكر بأنها لن تمانع أبدًا.. وكيف يتسنى لها أن تمانع؟ هذا أقل تعويض عن الجريمة التى اقترفها الولد حيين... وعادت أم حيين من المطبخ، وقالت له: «قلت إنك غضبان». سكتَ. «وقلت من قبل: اتفقنا». ولمح الملاكين على كتفيها. وكان أحدهما عابسًا متجهمًا، والآخر ساخرًا متهكمًا. ولوح له المتهكم بالصك وهو يبتسم. وكان جلال مؤمنًا بأن كل ما يمر به هو فى الأصل مكتوب. فلماذا يعيد الملاك كتابة المكتوب؟ فى الإعادة إفادة! صح؟ والمكتوب هنا أن جلال تذكر سلخ الوجه بعد فوات الأوان، وأنها ألقت بالزيت المغلى على وجهه، فصرخ والنار تشوى جلده. لعنها وسبها. حاول أن يمس وجهه. غير أن الزيت المغلى كان لا يزال مغليًا فحرق أصابعه... كيف ينتقم منها؟ هل يقتلها أم يحرق البيت بما فيه؟ ولكن الحكاية لا بد أن تسير على هواء مؤلفها، ومؤلفها يرى أن زوج المرأة ووالد الولد طوق عنق جلال، وسحبه من قفاه، ورمى به فى الطريق... وهكذا يود الراوى! تصدر عن «دار العين».