تعد قرية «دلجا» التى اقتحمتها قوات الشرطة والجيش قبل أيام وحررتها من قبضة أنصار الجماعة وعناصر من البلطجية، نموذجًا للقرية المصرية التى تعانى الفقر والجهل وغياب الخدمات الأساسية، فكانت كغيرها من القرى المصرة مرتعًا خصبًا لنمو التطرف والتعصب وبيئة ملائمة لانتصار جماهات العنف والإرهاب وأيضا العناصر الإجرامية، فجميع هذه العناصر الإرهابية والإجرامية تزدهر بضاعتهم فى ظل الفقر والجهل، انتشار الأمية وغياب الخدمات، تراجع الدولة وربما غيابها الكامل عن المشهد. «دلجا» قرية تتبع مركز دير مواس بمحافظة المنيا، تلك المنطقة الأفقر فى بر مصر، يبلغ عدد سكانها أكثر من 120 ألف نسمة، وهو عدد يعادل سكان المدن والمراكز لا القرى، ترتفع نسبة الأمية وينتشر الجهل ويسود الفقر وهو المثلث الذى ينتج العتصب والتطرف من ناحية ويفرخ جماعات تمارس السرقة والبلطجة من ناحية ثانية والأخيرة تستفيد من شيوع مناخ التعصب والتطرف، فتمارس أعمال البلطجة على الأقباط وتستفيد من المناخ المتشدد فى فرض الإتاوات على المسيحيين هناك وتعلمت كيف تطلق على الإتاوة «جزية» تمشيًّا مع الخطاب الدينى السائد. قرية «دلجا» محرومة من كل الخدمات فلا يوجد مستشفى واحد يخدم ما يزيد على مئة ألف نسمة، ولا توجد طرق معبدة فى القرية، باختصار هى قرية تقبع فى الفقر والجهل، محرومة من كل الخدمات الإنسانية، وفى مناخ كهذا ينمو التعصب والتطرف ويزداد الميل للعنف. السؤال هنا: هل يمكن اتخاذ هذه القرية نموذجًا على حال مصر؟ الإجابة: نعم، والسؤال التالى: هل يمكن تبنى خطط قصيرة ومتوسطة وطويلة الأمد لعلاج هذه الحالة وبناء تجارب تنموية حقيقية تأخذ بيد الفقراء والبسطاء على طريق التنمية الشاملة وفى القلب منها تطوير العملية التعليمية وتحقيق نهضة حقيقية؟ الإجابة: نعم فى حال وجود إرادة فى العاصمة وبناء نموذج ديمقراطى حقيقى يوقف عجلة الفساد ويعيد الاهتمام بصعيد مصر وقراه تحديدًا. حالة «دلجا» تقتضى المسارعة بتحويلها إلى مدينة فورا حتى تبدأ خطة عاجلة لإمدادها بالخدمات الإنسانية الأساسية من مستشفى مركزى وقسم بوليس على مستوى مركز، مدارس ووحدات خدمية شاملة. وفى تقديرى أن حالة «دلجا» يمكن أن تكون حالة مثالية للنهوض بقرية (مدينة) مصرية بالتعاون بين الحكومة والقطاع الخاص، فهناك متطلبات تقوم بها الدولة، ومبادرات لا بد أن يقوم بها القطاع الخاص للمساعدة فى تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية فى تلك القرية المصرية. فإذا كانت قوات الشرطة والجيش قد تمكنت من اقتحام القرية وإزالة المتاريس وفك أسر جزء من أهل القرية وقعوا فريسة لجماعات إرهابية وعصابات إجرامية، قوات الأمن مشطت القرية وقبضت على من استطاعت القبض عليهم من المجرمين، وتسعى إلى تبديد مخاوف أهل القرية الذين غادروها هربًا وخوفًا أو تحت وقع التهديد كى يعودوا مجددًا إلى منازلهم، قوات الأمن لن تبقى إلى ما لا نهاية، لا بد أن ترحل يومًا ما، ووجودها يساعد فى حفظ الأمن والتصدى لجماعات العنف والإرهاب، لكنها لن تكون قادرة على إجبار الناس على العيش المشترك والعودة إلى حياتهم الطبيعية، لا يمكن لطرف خارجى أن يجبر البشر على التعايش مع بعضهم البعض والتعامل بشكل طبيعى، وهنا تكمن المشكلة الحقيقية، فالقضية ليست مجرد توفير الأمن عبر القوات، مع أهميته وحيويته، لكن القضية هى تقبل البشر بعضهم لبعض وتسرب الأمن إلى داخل النفوس، وهى أمور لا يمكن أن تتحقق إلا بإزالة رواسب الكراهية والعداء النابعين بالأساس من التعصب والتطرف والأخيرين ينموان بقوة فى بيئة يسودها الفقر والجهل والتخلف، وهنا تأتى أهمية مبادرة القطاع الخاص المصرى وعدد من رجال الأعمال الوطنيين الشرفاء بالذهاب إلى هذه القرية ودراسة ظروفها على أرض الواقع وبدء مشروعات تنموية فورًا كبناء مصانع أو شركات ضخمة توفر فرص عمل لأبناء القرية، وتشارك فى تمويل منح دراسية وبناء مجمعات للخدمات، باختصار القيام بعدد من المضروعات التى تنتشل «دلجا» وأهلها من الفقر والجهل والتخلف، فى حال تحسن الأوضاع الاقتصادية وتوفير الخدمات الأساسية ستتوافر فورًا بيئة نموذجية للعيش المشترك والحياة الطبيعية بين المصريين، فأهل مصر عاشوا آلاف السنين معًا تقلبت بهم الأحوال واعتنقوا ديانات وغيروا مذاهب وكانت بينهم على الدوام مساحات مشتركة تتغلب على التعصب والتطرف وضيق الأفق، لكن فيروس الجهل والفقر والمرض والتخلف كان باستمرار القاتل لكل تجارب العيش المشترك فى مصر. على الدولة المصرية أن تتحرك فورًا وتدرس عملية تحويل القرية إلى مدينة، فتوفر لها الخدمات الأساسية وعلى رجال الأعمال الشرفاء المبادرة بدراسة القيام بمشروعات تنموية فى المنطقة ومن قبلها تقديم مساعدات عاجلة للمطحونين من أهل «دلجا». الشرطة تحفظ الأمن وتضبط الأوضاع، لكنها لا توفر بيئة ملائمة فى حد ذاتها للعيش المشترك، الذى يتحقق بمسؤولية مشتركة بين الدولة والقطاع الخاص.