من مفارقات الديمقراطية الأمريكية أن الحزب الجمهورى الأكثر ليبرالية على المستوى الاقتصادى، والذى تبنّى سياسات النيوليبرالية التى لا يجنى ثمارها سوى رجال الأعمال والقريبين من دوائر المال فقط، استطاع منذ نهاية الستينيات تقريبًا الحصول على أصوات العمال «البيض» الأكثر تضررًا من هذه السياسات الاقتصادية الإفقارية. الحزب الجمهورى ينجح باستمرار فى حصد أصوات هؤلاء مستغلًا أمرين: أولًا مخاوف هؤلاء الطبيعية من مشاركة العمال السود لهم فى اقتسام أرزاقهم إذا ما تم التصديق على مزيد من المساواة التى ينادى بها الحزب الديمقراطى. ثانيًا تديّن هؤلاء العمال، فالحزب منذ نيكسون تقريبًا وهو يغازل الفقراء المتدينين بطبعهم بالتركيز على رفض أفكار الديمقراطيين المنافسين التقليديين له، والتلويح دائمًا بأن «الدين» فى خطر، وأن المشكلات الاقتصادية التى يعانى منها هؤلاء قبل أى شخص ليس سببها سياسات الحكومة الفاشلة وإنما سببها ابتعاد الأمة الأمريكية عن إرادة الله. يستغل الحزب ما يطرحه الديمقراطيون من أفكار حول الإجهاض والمثلية الجنسية والحق فى حمل السلاح أو ما يُعرف بالحقوق المدنية فى جذب الفقراء والعمال والمهمشين الذين يخشون غضب الله أكثر مما يخشون فشل الحكومة وانتهازية رجال الأعمال! «بإمكان المرء أن يجد فى الإنجيل جميع الإجابات عن المشكلات التى تواجهنا اليوم، فقط إن نحن قرأنا وآمنّا».. هذه عبارة لم يقلها أحد قساوسة الكنائس الإنجيلية التى تتبع التفسير الحرفى للإنجيل، ولكن قالها رونالد ريجان فى حملته الانتخابية! يعمل السياسيون الرأسماليون على استيعاب الاستياء الناجم عن الفشل الاقتصادى المتوالى بتصوير علل المجتمع الأمريكى بأنها أزمة روحانية لا أزمة رأسمالية ويساعدهم على تحقيق هذا الهدف الكنائس المحافظة والجماعات الدينية من أمثال الغالبية الأخلاقية والتآلف المسيحى. ما يجرى فى أمريكا يجرى فى مصر وإن كان بصورة أوسع، خصوصًا أن تساهل الدولة مع اختراقات القانون من هذا النوع لا يثير غضب الجماهير، بدليل تمرير أحزاب اليمين الدينى رغم مخالفتها الدستور الذى يمنع تشكيل الأحزاب الدينية. توسُّع المسؤولين والمرشحين للبرلمان والرئاسة فى مصر فى استخدام الدين للدعاية السياسية توسع يحلم به نظراؤهم الأمريكيون. سوف يكون من غير المناسب هنا سوق أمثلة لهذا التوسع فى استغلال الدين، خصوصًا أن ذاكرة المصريين حاضرة فى هذا الشأن بداية من غزوة الصناديق. فضلًا عن أن أحد أغراض هذا المقال ليس فى الإجابة عن سؤال: لماذا يفعل الساسة ذلك؟ ولكن فى الإجابة عن سؤال: لماذا تستجيب الطبقات الفقيرة فى كل مرة لهذا التدليس باسم الدين على الرغم من أن كل الأحزاب الدينية تنتهج سياسات نيوليبرالية؟ أى أن الطبقات الفقيرة تصوّت كما تفعل نظيرتها فى أمريكا لهؤلاء الذين يتسببون بسياساتهم الاقتصادية فى مزيد من المعاناة الاقتصادية لهم ولأسرهم. من ناحية أخرى، فإن الرأسمالية وجدت دعمًا أيديولوجيًّا كبيرًا من اليمين الدينى منذ بدايتها، سواء فى الغرب أو فى مصر. ففى مصر اضطر السادات لتصدير اليمين الدينى المشهد أولًا لقمع معارضيه من الناصريين واليساريين، وثانيًا لتبرير سياساته الانفتاحية. من جانب السلطة فإن اليمين الدينى يمكنه دائمًا تبرير الفقر باعتباره ابتلاء من الله مع وعد بقصور فى الجنة وتبرير الثراء باعتباره رزق الله يعطيه لمن يشاء وقت أن يشاء. ومن جانب اليمين الدينى فإن السلطة يمكنها دائمًا رد الجميل بإزاحة كل مانع يحول بينه وبين نشر دعواه والترويج لمشروعه الغامض. فى زمن السادات غض اليمين الدينى الطرف عن سياسات النظام مقابل غض الأخير الطرف عن نشر الوهابية المتشددة. وفى زمن مبارك غض اليمين الدينى الطرف أيضًا عن سياساته بل اعتبروا المعارضين له خارجين عن الملة مقابل غض الأخير الطرف عن قنواتهم الفضائية وكتب الوهابية التى توزّع مجانًا فى كل مكان. من ناحية ثانية، فإن استمرار معدلات الأمية وتراجع الدولة عن تطوير التعليم، بما فى ذلك التعليم الجامعى، واستجابة الدولة إلى اليمين الدينى فى كثير من المواقف التى دخل فيها طرفًا فى صراع مع المثقفين، وسماحه لليمين الدينى الحلول محله فى المناطق الفقيرة ببناء المستوصفات والمدارس وأكشاك بيع المنتجات الغذائية بأسعار مخفضة، فضلًا عن توالى الفشل الحكومى فى الملف الاقتصادى رغم معدلات التنمية التى ارتفعت، وفساد الجهاز البيروقراطى.. إلخ، كل ذلك تسبب فى استجابة القاعدة الشعبية لليمين الدينى باعتباره البديل «النزيه» للنظام، وتسبب فى انتشار الشعار المهلهل «الإسلام هو الحل» فضلًا عن عدة مصطلحات غامضة من قبيل «المشروع الإسلامى» و«تطبيق الشريعة» وغيرها، بل أمكن لأحد رموز هذا التيار «الشيخ الحوينى» الكلام عن استعادة «الغزوات» مع وعود ساذجة بالغنائم والنساء دون أن يتوقف أحد ليسأله عن كيفية حدوث ذلك فى القرن الواحد والعشرين! من ناحية ثالثة، فإن اليسار الديمقراطى بخاصة، واليسار بعامة، يخسر دائمًا إما لأنه لم يغيّر خطابه القديم بعد، وإما لأنه طوّر خطابه، ولكن فى مسار يسهل ضربه بخطبة جمعة واحدة. ينشغل اليسار الديمقراطى بقضيتى العدالة الاجتماعية والحرية، وعلى الرغم من أهميتهما فإنه يفشل فى توسيع قاعدته الشعبية على أساس انحيازه لهما، أولًا لأن خطابه عن العدالة الاجتماعية يتشابه كثيرًا مع خطاب اليمين الدينى، فهو لا يعدو أن يكون وعودًا فى الهواء، فإذا كان اليمين الدينى يعد جمهوره بأن الإسلام هو الحل فإن اليسار الديمقراطى يعد جمهوره أيضًا بأن يكون اليسار هو الحل. أقول كل ذلك لأننا بصدد إجراء انتخابات برلمانية خلال عدة أشهر لن يكون التيار المدنى ككل واليسارى منه بالأخص بالجاهزية المطلوبة لشغل الفراغ الذى خلفته جماعة الإخوان، والتى من المحتمل جدًّا أن تخوض الانتخابات عبر وسطاء كثيرين. على التيار المدنى إذن وعلى اليسار بالذات قبل تعليق فشلهما للمرة الألف على جهل المصوتين الإجابة عن السؤال الأهم: كيف ندافع عن الناس دون أن نقنعهم بعدالة قضيتنا المشتركة؟!