من البداهات في الفكر السياسي والدستوري المعاصر أن حرية التعبير هي أم الحريات العامة كلها، ومن ثم ترتبط بها عديد الحريات وعلى رأسها حرية الضمير / الوجدان، وحرية التدين والاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية، وحرية التبشير والدعوة عن دين ما أو معتقد ما، لكن هذه الحرية الأم وغيرها من الحريات الأخرى المرتبطة بها تواجه أشكالاً متعددة من القيود في عديد القوانين المنظمة لها. أحد أبرز هذه القيود تتمثل في ضرورة احترام المقدسات على نحو يؤدي في الواقع العربي إلى الحد من حرية الفكر والتعبير، وفي بعض الأحيان لمصادرة هذه الحرية، تحت شعار احترام المقدسات، أو مفهوم النظام العام المفرط في عموميته والخاضع لتحديات القضاء والسلطة التنفيذية ومصالح النخبة السياسية الحاكمة. ثمة إشكالية ينطوي عليها التناقض المفهومي بين حرية التعبير، واحترام المقدسات، وهي مفاهيمية وبنيوية معاً بقطع النظر عن نمط المعالجات القانوني الشكلاني الذي يحاول التوفيق بينهما، أو يضبط الحرية المركزية من خلال مفهوم المقدسات بالجمع واحترامها، ويغالي ويوسع من المقدسات، والتي قد تصل إلى محاولة احترام أو تقديس ليس المقدس والديني فقط وإنما إلى ما يتجاوزه، وهو البُنى الفقهية والتأويلية واللاهوتية والرمزية الوضعية حول المقدس ونصه المؤسس. ثمة ظاهرة متنامية خلال عديد العقود الأخيرة، وهي ميلُ بعض رجال الدين الغلاة إلى إضفاء بعض من القداسة أو شبه القداسة على الإنتاج الديني الوضعي، وتحويله إلى أداة لكبح والأحرى قمع حرية الفكر والتعبير. في السياق العربي المعاصر بعد الاستقلال فرضت العلاقة الوثيقة العرى بين المؤسسة الدينية والسلطة السياسية على الأخيرة فرض سياجات من الحماية على هذا الإنتاج، والأخطر استخدام مفهوم حماية المقدسات أو احترامها في بعض الأحيان لقمع حريات التفكير والبحث العلمي والتعبير، وهو أمر يكشف عن إنتاج التسلطية السياسية لنمط من التسلطية الدينية في بعض الدول والمجتمعات العربية. ثمة عديد من القوانين التي عصفت بجوهر الحقوق الدستورية من خلال الآلية التشريعية بدعوى أن الحق الدستوري يصاغ عاماً في الوثيقة الدستورية، ويأتي القانون لتنظيمه ويعكس القيود، ويُحملُ على المصالح المسيطرة سياسياً واجتماعياً واقتصادياً ودينياً ومذهبياً. في هذا السياق غالباً ما يتخذ المشرع / السلطة الحاكمة بعض الوقائع الاجتماعية أو اليومية المثيرة للجدل والصراع والنزاع بين بعض الأفراد أو المجموعات السياسية / الدينية، أو جماعات الضغط الاقتصادي، لكي يتدخل تشريعياً / سياسياً بدعوى تنظيم حق ما / حرية ما بالقانون أو بتعديل من التعديلات يوسع من قبضة السلطة السياسية وصلاحياتها المفرطة لكي تتدخل لحسم أو تصور إمكانية حسم بعض هذه المنازعات، وتحقيق مفهوم الردع العام من خلال النصوص الجنائية والعقابية. أحد أبرز الأمثلة على هذا النمط من السياسة الجنائية يتمثل في عديد القوانين، وعلى رأسها قانون الإرهاب وتعديلاته منذ أوائل عقد التسعينيات في مصر، وقبله قانون بات زائعاً الآن هو ما عرف ب "قانون ازدراء الأديان". أحد أبرز الدوافع لوضع هذا القانون، هو تدخل السلطة التنفيذية، وتحديداً بعض الأجهزة الأمنية التي يميلُ تفكيرها إلى استسهال اللجوء إلى الأداة التشريعية لشرعنة تحركها إزاء بعض الأشخاص أو الجماعات الدينية والسياسية والأهلية. هذا التوجه في السياسة الأمنية يمثل أحد أنماط تفكيرها وسلوكها إزاء ما تعتقد أنه يشكل أحد مصادر تهديد الأمن من وجهة نظرها ومصالح الدولة / النظام في هذا الإطار جاء نص المادة 161 مستبدلة بالقانون 20 لسنة 1982 ثم عدلت بالقانون 97 لسنة 1992 وجرى نص المادة على ما يلي: "يعاقب بتلك العقوبات كل تعد يقع بإحدى الطرق المبينة بالمادة 171 على أحد الأديان التي تؤدى شعائرها علناً ويقع تحت أحكام هذه المادة (أولاً) طبع أو نشر كتاب مقدس في نظر أهل دين من الأديان التي تؤدي شعائرها علناً إذا حرف عمداً نص هذا الكتاب تحريفاً يغير معناه. (ثانياً) تقليد احتفال ديني في مكان عمومي أو تجمع عمومي بقصد السخرية أو ليتفرج عليه الحضور". ضرورة توافر ركن العلانية طبقاً لنص المادة 171 من قانون العقوبات استبدلت كلمة "حرض" بكلمة "أغرى" أينما وردت في المادة 171 بالقانون رقم 147 لسنة 2006 . جرى نص المادة على النحو التالي: "كل من حرض واحداً أو أكثر بارتكاب جناية أو جنحة، بقول أو صياح جهر به علنا أو بفعل أو إيماء أو بكتابة أو رسوم أو صور شخصية أو أية طريقة أخرى من طرق التمثيل جعلها علنية أو بأية وسيلة أخرى من وسائل العلانية يعد شريكاً في فعلها ويعاقب بالعقاب المقرر لها إذا ترتب على هذا الإغراء وقوع تلك الجناية أو الجنحة بالفعل. أما إذا ترتب على التحريض مجرد الشروع في الجريمة فيطبق القاضي الأحكام القانونية في العقاب على الشروع ويعتبر القول أو الصياح علنياً إذا حصل الجهر به أو ترديده بإحدى الوسائل الميكانيكية في محفل عام أو طريق عام أو أي مكان آخر مطروق أو إذا حصل الجهر به أو ترديده بحيث يستطيع سماعه من كان في مثل ذلك الطريق أو المكان أو إذا أزيع بطريق اللاسلكي أو بأية طريقة أخرى. ويكون الفعل أو الإيماء علنياً إذا وقع في محفل عام أو طريق عام أو في مكان آخر مطروق أو إذا وقع بحيث يستطيع رؤيته من كان في مثل ذلك الطريق أو المكان. وتعتبر الكتابة والرسوم والصور والصور الشمسية والرموز وغيرها عن طريق التمثيل علنية إذا وزعت بغير تمييز على عدد من الناس أو إذا عرضت بحيث يستطيع أن يراها من يكون في الطريق العام أو أي مكان مطروق أو إذ بيعت أو عرضت للبيع في أي مكان". العقوبات: تتراوح العقوبات وجريمة ازدراء الأديان ما بين الحبس من ستة أشهر وحتى خمس سنوات والغرامة خمسمائة جنيه وحتى ألف جنيه. أما قانون ازدراء الأديان يتمثل فيما جاء بنص المادة (98و) الخاصة بازدراء الأديان وصدرت بالقانون 29 لسنة 1982 هذه المادة مستحدثة، وجاءت في أعقاب الخطاب القدحي والازدرائي الذي مارسته الجماعة الإسلامية من على بعض منابر المساجد إزاء الديانة المسيحية، وعقائدها ورموزها وطقوسها وتاريخها، في بعض مناطق تواجدها في صعيد مصر، لاسيما محافظة المنيا. من هنا تدخلت السلطة الشارعة، وأضافت نص المادة (98و) من قانون العقوبات المصري، والتي جرى نصها على النحو التالي: "يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر ولا تجاوز خمس سنوات أو بغرامة لا تقل عن خمسمائة جنيه ولا تجاوز ألف جنيه كل من استغل الدين في الترويج بالقول أو الكتابة أو بأية وسيلة أخرى لأفكار متطرفة بقصد إثارة الفتنة أو تحقير أو ازدراء أحد الأديان السماوية أو الطوائف المنتمية إليها أو الإضرار بالوحدة الوطنية". قد تبدو النواية الظاهرة والأهداف التشريعية والأمنية من هكذا نص حسنة إلا أن إمعان النظر على صعيد الفن التشريعي، تشير إلى تراجعه وضعف مستوياته. أما على صعيد الواقع السياسي/ الديني / الاجتماعي، وواقعاته، فثمة قيود باهظة على حرية الرأي والتعبير والتدين والاعتقاد، والبحث العلمي، والأخطر أن المادة طبقت على بعض أصحاب الفكر والمثقفين والشعراء والروائيين، والأمثلة عديدة، ومنها تمثيلاً لا حصراً ما يلي: 1- حلمي سالم الشاعر 2- نصر حامد أبو زيد الأكاديمي 3- سيد القمني الباحث 4- نوال السعداوي الكاتبة استخدمت المادة أيضاً في حق بعض المختلفين دينياً كالبهائيين، أو المغايرين مذهبياً كالشيعة أو تأويلياً وفقهياً كالقرآنيين وغيرهم. النصوص العقابية السابقة تذهب وفق بعض رجال القانون – المرحوم الزميل أحمد سيف الإسلام حمد في مذكرة دفاع في أحد القضايا – إلى ما يلي: 1- تجريم الأفكار وهو ما يتعارض مع حرية الرأي والتعبير المكفولة دستورياً. 2- يتعارض مع الحرية الشخصية، وهو ما يشمل حق الأفراد وحريتهم فيما تبين حتى الأفكار الخاطئة أو غير الصحيحة أو المتعارضة مع المجتمع أو ما يسميه الأستاذ العميد د. طه حسين الحق في الخطأ. (معركة الشيخ عبد الحميد بخيت حول الإفطار في نهار رمضان). 3- يذهب أحمد سيف الإسلام حمد إلى أن نص التجريم فضفاض لأنه ينطبق على الصور المختلفة من الأفكار المتطرفة التي قد يكون بعضها مشروعاً طالما لم يقترن نشرها بالقوة والعنف. 4- اللغة العامة والغامضة وغير المنضبطة في معناها ودلالتها مثل لفظ الترويج والتحبيذ غير محددي المعالم. 5- لا توجد حدود فاصلة وقاطعة بين الاقتناع بالأفكار وتحبيذها. من ثم يؤثم نص التجريم اعتناق الأفكار من باب التحبيذ. وهو ما يتعارض مع مبدأ لا جريمة ولا عقوبة إلا بناءًا على قانون. 6- استخدام لغة مهجورة لا يعرفها الواقع المصري في نص م 176. وهو مصطلح طائفة. 7- يلاحظ أيضاً أن هذه المواد تعطي صلاحيات واسعة للنيابة العامة والقضاة في تفسير الازدراء وأشكاله، بالنظر إلى التكوين والإدراكات المحافظة للجماعة القضائية. 8- الاستخدام السياسي / الديني المحافظ للنصوص العامة والغامضة وغير المنضبطة دلالياً 9- بروز ظاهرة محتسبو الشارع، أي بعض الأشخاص أو المحامين لرفع قضايا على بعض الكتاب أو الفنانين بدعوى ازدراء الأديان من خلال الشكاوى التي تقدم للنائب العام لإجراء التحقيق فيها، ثم تحريكها وتقديمها إلى القضاء (لاحظ تعديل القانون من رفع الدعاوى المباشرة من الآحاد ذوي المصلحة إلى ضبط ذلك من خلال الشكوى إلى النيابة العامة ودلالة ذلك). 10- بعض المحامين يسعون إلى الشهرة أو الذيوع عن طريق هذه الدعاوى. 11- قيام عناصر تنتمي إلى الجماعات الإسلامية السياسية باللجوء إلى آلية الشكوى وذلك بهدف فرض هيمنة رمزية على المجال العام. وللحديث بقية.