دولة القانون والشرعية الدستورية والقانونية أحد أبرز أسس الدولة الحديثة وأعمال سيادة القانون والشرعية، يختلف مضمون تطبيقهما وطبيعتهما، وفق طبيعة الدولة والنظام السياسي، في ظل النظم الديمقراطية الراسخة. يشكل كلا المبدأين والنظامين أحد أبرز ضمانات التوزيع الداخلي للقوة بين السلطات وفي الفصل فيما بينهم سواء أكان فصلا مرنا وفق نظام الجمهورية الخامسة الفرنسية وتطوراتها، أو الفصل على النمط الرئاسي الأمريكي، أو وفق نظام وستنمنستر البريطاني، وكذلك في إطار الديمقراطية الهندية ونظائرها وأشباهها. في هذه النظم السياسية الليبرالية، كلا المبدأين سيادة القانون والشرعية القانونية يشكلان أحد أبرز ضمانات الحريات العامة والشخصية، ومن ثم يطبقان في ظل نظم سياسية مفتوحة على الحوار والجدل العام والمشاركة السياسية الفعالة للمواطنين في المجال العام، وفي عمل النظام ومؤسساته السياسية. إحدى أهم ركائز الممارسة الديمقراطية لسيادة القانون ومبدأ الشرعية القانونية رسوخ الثقافة والقيم السياسية الديمقراطية العليا، حيث المساواة، والحرية، والعدالة، والتعددية والإخاء الإنساني، وقيم حقوق الإنسان على تعدد أجيالها، والاعتماد على القيم الفردية، واحترام مطلق الوجود الإنساني، دونما تمييز على أسس معيارية كالنوع الاجتماعي -ذكر وأنثى- أو العرق أو الدين أو المذهب أو القومية أو الانتماء "الطبقي"، أو الوظيفي، حيث جميع المواطنين سواسية من حيث الحقوق والواجبات في تطبيق القوانين أيا كان مجالها. من هنا اكتسبت الشرعية القانونية ودولة القانون فعالية وأثرا في التنظيم والضبط الاجتماعي، وفي أحداث التغيرات الاجتماعية على نحو سلمي، وفي ظل توافق مجتمعي. في ظل النظم الشمولية تهيمن القلة عند قمة جهاز الدولة والنظام على وضع القوانين وتحديد نظامي الشرعية القانونية والسياسية، وفق أهواء ومصالح الدولة والنظام في إعادة إنتاج كليهما ومصالح القوى المسيطرة. غالبا ما يتسم مبدأ سيادة القانون، بالطابع الشمولي والميل إلى ضبط الحريات وفرض قيود عليها، لا سيما حريات الرأي والتعبير والتنظيم وتشكيل الأحزاب السياسية أو إنشاء الجمعيات والمنتديات العامة، مع فرض رقابات وقيود على المجال العام السياسي المقيد، وتأميم الصراع الاجتماعي والميل إلى التنظيمات التعبوية في السياسة والاجتماع والثقافة. من هنا يغدو كلا المبدأين شكليين بامتياز. هذا النمط من النظم الشمولية انهار غالبه مع سقوط الإمبراطورية السوفييتية بعد سقوط حائط برلين، وظلت بعض بقاياها في جنوب العالم، وأخذ بعضها في التفكك. في بعض النظم التسلطية العربية، ومنها مصر، ثمة مساحات وهوامش للحركة قبل الانتفاضات الشعبية في يناير 2011 وما بعدها، حيث تفتح بعض الهوامش للتحرك في المجال العام السياسي والثقافي المحاصر، لتحرك بعض الفاعلين والنشطاء، وذلك لامتصاص الضغوط والغضب الاجتماعي والسياسي. في الغالب هذه الاستراتيجية ما تكون بديلا عن موت السياسة لأنها تمارس بين الحين والآخر وليست دائمة في كل الأحوال. مبدآ الشرعية القانونية وسيادة القانون غالبا ما يمارسان على نحو شكلي بقطع النظر عن مضمون القواعد الهرمية لممارسة الشرعية القانونية، وذلك لعدد من الأسباب نسوق بعضها فيما يلي: 1- الصياغات العامة للنصوص الدستورية، حول الحريات العامة والشخصية غالبا ما تكون مصحوبة بالإحالة إلى القانون لتنظيمها. وفي هذا الإطار تضع السلطة الشارعة من القيود الإجرائية والموضوعية على الحرية/ المبدأ على نحو تفتقد معه أية إمكانية حقيقية لممارستها في الواقع الموضوعي والمجال العام المحاصر قانونيا وإجرائيا وأمنيا. 2- في ظل موت السياسة وسياسة اللا سياسة البيروقراطية السلطوية يتم وضع القيود على التعددية الاجتماعية والثقافية، والدينية والمذهبية، ومن ثم غياب نظم وآليات للمشاركة السلمية في ظل مبدأ سيادة القانون وحقوق المواطنة. 3- تميل عملية إنتاج القوانين إلى التعبير عن غالب مصالح النخبة التسلطية الحاكمة وظهيرها الاجتماعي أساسا، وتعبر في الغالب الأعم عن مصالح كليهما، والاستثناء هو بعض التوازن في المصالح بين الفئات الاجتماعية العريضة، والقلة المسيطرة وظهيرها الاجتماعي، لأسباب تتصل بتحقيق بعض الاستقرار، والحيلولة دون الانفجارات الاجتماعية. وهو ما يبدو في بعض تشريعات الضمان الاجتماعي - الخاوية من المضامين- وسياسة الدعم السلعي الذي كانت سائدة ولا تزال بعض بقاياها في مصر، ويتم التراجع عنها رويدا رويدا في ظل السياسة النيوليبرالية في ظل حكم مبارك، وما بعد 25 يناير ويبدو التحيز الاجتماعي لصالح الأثرياء في السياسة الضريبية، والضرائب غير المباشرة على تعددها التي لا تراعي الفئات الاجتماعية المسحوقة، وتساوي بين الأثرياء ومتوسطي الحال والفقراء من الأغلبيات الشعبية. في المثال المصري بات مبدأ الشرعية القانونية موضع أعمال وتطبيق على الصعيد الشكلاني، إلا أن ثمة تراجعات، وانتهاكات له تعود إلى عديد من الأسباب على رأسها ما يلي: 1- تراجع مستويات المهنة والفن القانوني كنتاج لنمط التعليم والتكوين القانوني في كليات الحقوق، والمؤسسات القانونية. 2- ميل السلطة التنفيذية إلى التقدم بمشروعات قوانين إلى البرلمان ويتم تمريرها دونما مناقشات مجتمعية، أو دراسة لإبعادها وآثارها السياسية والفنية والاجتماعية، وغياب ربط بين التشريعات والسياسات الاجتماعية، على نحو أدى إلى إنتاج فجوات بين نصوص القانون ومصالح المخاطبين بأحكامه. 3- بروز ظاهرة التراخي في تنفيذ بعض الأحكام القضائية، على نحو أدى إلى خلق فجوة بين المواطنين وبين قانون الدولة، ومدى فعالية اللجوء إلى النظام القضائي للحصول على الحقوق وحسم المنازعات بين المراكز القانونية المتصارعة. 4- بطء صدور الأحكام في المنازعات القضائية، أدى إلى لجوء المواطنين إلى الآليات العرفية في حل المنازعات بعيدا عن قانون الدولة وجهازها القضائي على تعدده. 5- ميل بعض من ذوي السلطة والنفوذ والمكانة ورجال الأعمال إلى التنصل من تطبيق قانون الدولة أو الالتواء به تفسيرا وتطبيقا اعتمادا على سلطة قانون القوة والمكانة، وهو ما أورث في الوجدان والوعي شبه الجمعي إحساسا بأن القانون لا يطبق سوى على الضعفاء فقط، وهو ما يشير إلى تزايد الفجوات بين قانون الدولة وبين المواطنين، واستمرارية أزمة الثقة بينهم وبين مبدأ سيادة القانون. 6- عدم إيلاء النخبة الحاكمة، والتشكيلات البرلمانية المتعاقبة أهمية للتوازن بين المصالح الاجتماعية، ودرس الأبعاد المختلفة للتشريعات قبل إقرارها، من حيث مدى قدرتها على إشاعة حس العدالة والمساواة لدى المواطنين، وأنه يعبر عن دولة المواطنة وحقوقها وواجباتها. 7- ميل السلطة الشارعة إلى نظرية تغليظ العقاب تحت تصور خاطئ مفاده أن رفع منسوب العقوبات في القوانين -أيا كان مجالها- يؤدي إلى تحقيق الردع العام والخاص، وهو ما ثبت عدم دقته على صعيد التطبيقات المقارنة وفي مصر، ولا تزال هذه السياسة مستمرة حتى في أعقاب الانتفاضات الشعبية، لا سيما في قانون التظاهر. هذا الميل لم يحقق الأهداف التشريعية والأمنية من ورائه تغليظ العقاب على سبيل المثال لا الحصر التهريب والاتجار وحيازة واستهلاك المواد المخدرة لم يؤد إلى انخفاض معدلات الجريمة في هذا المجال، بل ازدادت مؤشراتها. 8- تزايد وتكالب القوانين، وبروز بعض التناقضات فيما بينها على نحو أدى إلى اتساع القوانين الفرعية مما يعسر على المواطنين العلم بها على الرغم من سيادة القرينة الراسخة لا عذر لأحد بجهل القانون. في ظل هذه السياقات والأجواء والمحددات والنتائج، تتفاقم مسألة فاعلية مبدأي سيادة قانون الدولة والشرعية القانونية، وشكلانية مقاربتهما في الخطاب التشريعي والقضائي المصري، وتظل مسألة عدم الفعالية أحد العوائق الحقيقية على صعيد السلوك الاجتماعي، والإدراك شبه الجمعي حول دولة القانون والشرعية القانونية، وهي جوانب ازدادت تعقيدا سوسيولوجيا، وفنيا ووظيفيا وسياسيا في المراحل الانتقالية التي أعقبت الانتفاضات الشعبية في 25 يناير 2011 و30 يونيو 2013 وفيما بينهما، وفي أعقابهما، وهو ما سنتناوله في المقال القادم.