بوجهه البشوش وصوته الهادئ الممزوج بالرحابة ولسانة الطليق كان يطل الشيخ "محمد متولي الشعراوي" على محبيه يفسر آيات القرآن الكريم الذى تحل علينا اليوم ذكرى وفاته، وعبر منبره الفريد أزال الغموض عن الكثير من المعاني والأحكام، فجعل يسر الدين جليًّا واضحًا أمام العيان طوال حياته الدعائية والذي بدأها صغيرًا في عمر الحادية عشرة. يقرأ آيات الذكر الحكيم فيفسرها تباعًا فكان أول من فسر القرآن شفهيًّا فلقب "بإمام الدعاة"، تلك الموهبة الفريدة التي جعلته أشهر مفسري القرآن في العصر الحديث أعد لها بعد حفظه للقرآن الكريم بقرية دقادوس مركز "ميت غمر" بمحافظة الدقهلية، والتحق بعدها بالمعهد الثانوي الأزهري فتوغل في كتب الشعر والأدب حتى نهل منها ما أثرى وجدانه وشكل ثقافته.
أصر والده على إلحاقه بالأزهر الشريف بقاهرة المعز بعد أن لاحظ تفرده، ولكن الصبي اليافع كان متمسكًا بأرضه التي تربى عليها فاشترط على والده أن يحضر له كميات وفيرة من أمهات الكتب في تفسير القرآن واللغة العربية وعلوم الفقه والحديث الشريف كشرط لنزوحه، فما لبث الشعرواي الكبير أن أحضر لوليده كل ما يرغب من الكتب، قائلًا "أنا أعلم يا بني أن جميع هذه الكتب ليست مقررة عليك، ولكني آثرت شراءها لتزويدك بها كي تنهل من العلم". علاقته الوطيدة بوالده جعلته الابن البار منذ صغره وحتى مشيبه يسير على نهجه ويطيع أوامره في كل الأمور، حتى عندما أمره والده بأن يتزوج وهو طالب في المرحلة الثانوية فرضخ الشاب لتعليمات أبيه الذي اختار له شريكة حياته، فتزوجها وأنجب منها ثلاثة أولاد وبنتين.
كان الأب فى حياة الشيخ "الشعراوي" قدوة لا غنى عنها فكان يرجع إلى والده دائمًا ليستشيره في أعقد الأمور، فحنينه إلى دقادوس جعله يعود من حين لآخر إلى أرضها التي كان يتمنى أن يزرعها مع إخوته، ولكن محراب العلم كان يناديه فسرعان ما يعود الشيخ الصغير إلى أدراجه. جوائز وأوسمة استطاع "الشعراوي" أن يحصدها على مدار تاريخه بالعمل الدعوى كان منها وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى، وذلك قبل تعيينه وزير للأوقاف، وسام الجمهورية من الطبقة الأولى مرتين، الدكتوراه الفخرية في الآداب من جامعتي المنصورة والمنوفية.
تمخض عن مسيرة الشعاروى عدة مؤلفات مازالت باقية يستعين بها الكثير في تفسير آيات الذكر الحكيم لسهولتها ووضوحها، ومن أبرز تلك المؤلفات بعد تفسير القرآن الكريم الإسراء والمعراج، الإسلام والفكر المعاصر، الأحاديث القدسية، الآيات الكونية ودلالتها على وجود الله، الإنسان الكامل محمد صلى الله عليه وسلم، وغيرها من المؤلفات التي قام عدد من محبيه بجمعها وإعادة نشرها.
"قد مات جمال وليس بعجيب أن يموت، فالناس كلهم يموتون، لكن العجيب وهو ميت يعيش معنا، وقليل من الأحياء يعيشون وخير الموت ألا يغيب المفقود وشر الحياة الموت فى مقبرة الوجود، وليس بالأربعين ينتهى الحداد على الثائر المثير"، قالها "الشعراوي" فى وداع الرئيس "جمال عبد الناصر" حتى أصبح محبو الشيخ الجليل يرددونها وداعًا له بعد 19 عامًا من انطفاء صوته عن مسامعنا ورحيله عن دنيانا.