تحرك الضمير الثقافي للعالم، جزء منه على الأقل، ليذكرنا أن هناك قضية جارحة سكتنا عنها جميعا، استسلمنا لعواقبها في حالة من الرضا الذي لا يليق بنا، إنها قضية الأديب أحمد ناجي الذي ما زال يقبع في السجون المصرية بتهمة خدش الحياء، لقد أثرنا قضية سجنه الظالمة أمام المسئولين في أكثر من مناسبة، ولكنهم جميعا نظروا إلينا باحتقار وتجاهلوا مطالبنا، تماما كما فعلوا في قضية إسلام البحيري ومن بعدها فاطمة ناعوت، تجاهلوا التجمعات والبيانات والنداءات والمناشدات والتوسلات كأننا أشباح، أصواتنا قادمة من عالم آخر، وكأنهم وحدهم يملكون الحق المطلق، لأنهم يملكون القوة المطلقة. لا أحد يريد أن يفتح أوراق القضية ويعيد فيها النظر ببعض من الموضوعية، أن يعتبرها قضية رأي، ليست جريمة فعليه لها آثارها الضارة، ولم يحدث أي نوع من الأذى المباشر، ربما تستلزم لفت نظر أو غرامة، وليس سلب حرية إنسان لعدد من السنوات، الجريمة الحقيقية هي أن يوضع شباب مثل ناجي في مقتبل العمر وفي ذروة النشاط العقلي والإبداعي في جحور السجون وسط القتلة والمغتصبين وتجار المخدرات. وسط خفوت مشاعرنا واستسلامنا المخزي للأمر الواقع، يرتفع 120 صوتا يمثلون نخبة من المفكرين والفنانين والكتاب من كل العالم، يوجهون رسالتهم إلى رأس الدولة المصرية عبد الفتاح السيسي يناشدونه تخليص أحمد ناجي من ظلمة السجن، إنهم لا يمثلون صوتا خارجيا، وليسوا عملاء للغرب، كما عبّر البعض عن ذلك بسذاجة مؤلمة، وليسوا جزءا من المؤامرة العالمية التي نعتقد أن مهمتها الأساسية تشويه سمعة مصر، لكنهم ينتمون إلى قبيلة الفكر التي تضم الموهوبين حول العالم بغض النظر عن النوع أو الجنس أو اللغة، وهم أعلى من الحواجز والحدود والتحيزات العرقية، هذه الجماعة تمثل قوة معنوية لا يمكن تجاهلها أو الاستهانة بها، فهي جزء أساسي من نشاط العقل البشري الذي يحدد مسار الحضارة العالمية التي نعيش في ظلها. تم إرسال هذه الرسالة بواسطة مؤسسة القلم الأمريكية، وهي مؤسسة دولية تأسست عام 1989 ولها فروع في كل أنحاء العالم، وكان يرأس فرعها المصري أديبنا الكبير نجيب محفوظ حتى وفاته، وفازت بعضوية مجلس إدارتها مؤخرا زميلتنا الكاتبة إقبال بركة، وهي ليست منظمة لتجميع الكتاب فقط ولكن للدفاع عن حقوقهم ضد كل عوامل القمع التي تتعرض لها حرية الإبداع، ودأبت على الدفاع عن الكتاب الموجودين في كل سجون العالم، وقد قررت إعطاء "جائزة القلم" هذا العام لأحمد ناجي بحفل في ضاحية منهاتن في نيويورك في يوم 16 مايو المقبل، وهو الموعد المقرر لاجتماعها السنوي دون أن يعرفوا من سيتسلمها. الرسالة ليست وقفًا على أحمد ناجي وقضيته، ولكنها تمتد لكل سجناء الرأي في مصر وفي كل مكان في العالم، وهي لا تبتعد كثيرًا عن روح الدستور المصري الذي صدر عام 2014 والذي كفل حرية الإبداع ومنع عقوبة السجن في جرائم النشر، وقد حملت عنوان "الإبداع ليس جريمة"، وقد وقع عليها وودي آلان، وهو كاتب ومخرج وممثل أمريكي، يمتد تاريخه الفني لمدى ستة عقود، وقد كتب وأخرج ومثّل أكثر من 60 فيلما ومسرحية وحصل على جائزة الأوسكار ثلاث مرات، ووقعت أيضا الكاتبة الكندية مارجريت أتوود، وهي أشهر كاتبات كندا، ومن أكثر المدافعين عن العرب والقضية الفلسطينية، بل من المحبين لمصر أيضا، كاتبة روائية مهمة وناقدة وكاتبة مقال متميزة وناشطة سياسية في مجال حماية البيئة، والكاتب من جنوب إفريقيا ج.م. كوتسي وهو أحد الفائزين بجائزة نويل 2003 وحصل على جائزة بوكر مرتين، وجيسيكا هاجدرون، كاتبة مسرح أمريكية وشاعرة وممثلة، حصلت على جائزة الكتاب الوطني في أمريكا ولها واحد من أشهر كتب السيرة الذاتية في الأدب الأمريكي، والكاتب التركي أورهان باموق الفائز أيضا بجائزة نوبل، وقد زار مصر منذ أشهر قلائل في ضيافة مهرجان القاهرة الأدبي وشارك في إحدى الندوات الأدبية في بيت السحيمي وسط حشد كبير من القراء والكتاب وأسماء أخرى كثيرة. وحتى الآن لم ترد السلطات المصرية على هذه الرسالة، لذلك قررت المنظمة الكشف عنها يوم الإثنين الماضي، وكما أعلنت "سوزان نوسل" المديرة التنفيذية للمنظمة أنه قبل القيام بإرسال الرسالة قد تناقشت مع محامي ناجي وأفراد من عائلته حول أفضل الطرق للاقتراب من هذه القضية الحساسة، وقد سبق للمنظمة أن بعثت برسائل مماثلة للعديد من الحكومات، ولكن الأمر هذه المرة كان مختلفا، لأن ناجي لم يكن يريد العفو لنفسه بينما يظل قانون خدش الحياء باقيا ومسلطا على الرقاب، ولكنه يريد تعديل القانون نفسه حتى لا يؤخذ به الكتاب الآخرون. وتأمل المنظمة أن يكون منح الجائزة لناجي مقدمة للإفراج عنه، ولديها سجل طيب في هذا الشأن، فمن بين أربعين كاتبا مسجونا منحوا هذه الجائزة تم الإفراج عن 35 منهم، وعلى حد تعبير نوسل: لا أستطيع القول إننا نحن السبب المباشر وراء عملية الإفراج، ولكننا نجذب الانتباه الذي يثير نوعا من الضغط يجعل بعض الحكومات تستجيب، العديد من الفائزين بالجوائز قالوا لنا هذا، ولكن المسألة ليست بتلك السهولة، فالكاتبة الأوزبكية خديجة إسماعيلوفتش التي فازت بجائزة القلم 2015 كانت قد كشفت عن بعض قضايا الفساد الحكومي، وحكم عليها بالسجن سبع سنوات بتهمة إساءة استخدام السلطة والتهرب من الضرائب، ورغم ذلك فهي لا تزال في السجن، وكثف المسئولون من الضغط على قضيتها، ومؤخرًا منحتها منظمة اليونسكو الجائزة العالمية لحرية النشر لشجاعتها في التعبير عن نفسها رغم ما يحيط بها من ظروف صعبة"، وما زالت الضغوط تتصاعد على الحكومة الأوزبكية للإفراج عنها. هذه الرسالة من كبار مثقفي العالم، لا يجب أن تمر مرور الكرام، ولا يجب أن تقابلها الإدارة المصرية بالصمت والتجاهل، وإذا كان البعض لا يعرف أقدار الناس فهذه مهمة وزير الثقافة، عليه أن يتدخل ويوضح للمسئولين أن قضية أحمد ناجي أصبحت تحت دائرة الاهتمام العالمي، وإذا كانوا لا يأبهون بأصواتنا فليس من الحكمة تجاهل كل الأصوات التي تحمل أعلى الجوائز العالمية، ففي هذه إساءة أكبر لسمعتنا، وسيكون من اللائق بمصر، أرض الحضارة والثقافة أن تستجيب لهذا النداء لتؤكد مدى احترامها للثقافة. إنني أناشد رئيس الجمهورية أن يستجيب لتلك الأصوات التي توجهت له شخصيا بندائها وأن يسارع بالإفراج عن أحمد ناجي وكل سجناء الرأي وأن يسارع بتعديل كل القوانين التي تكمم الأفواه وتضع المبدعين المصريين في غياهب السجون.