فوتوغرافيا: سلوى رشاد قضيت ساعة ونصف الساعة أول من أمس فى بينالي "كتاب الفنان" المقام بمكتبة الإسكندرية. تقوم فكرة البينالي على "الكتاب الشخصي" الذى يصنعه الفنان بيده، متضمنا تأويله لشكل وفكرة ومفهوم الكتاب. أحيانا يستعرض الكتاب رحلة الفنان مع إحدى الأفكار الأساسية فى حياته كالموت أو الحب أو القلب مثلا، أو مستشهدًا بأحد الأشعار الدالة التى تلخص سيرة جوهرية بالنسبة له، أو يضمنه ملاحظاته المكتوبة حول زمنٍ ما هام. فى كل هذه المحاولات هناك نص مكتوب بجانب الصورة. فيتو كابوني أحيانا أخرى يأخذ الكتاب شكل كتاب الصور الذى يحكي الحكايات بدون استخدام وسيط الكتابة. تعبر الصور عن الخيال مباشرة وبدون ترجمة أو تفسير لها، وهى إحدى المراحل الأولى فى تطور "الكتاب" بمفهومه المجرد "كرسائل بصرية لها مدلولات"، مثل الكتب المصورة والمسلسلة التى كنا نسهر عليها، متتبعين رحلةً ما محصورة داخل مكان مادى يحرس حدوده دفتا الكتاب. الكتاب أحد الأماكن الذى تحب الحكاية/ الفلسفة/ الحكمة/ الخبرة أن تُستضاف فيه. كاملة بسيوني وطارق كمال وأحيانا يأخذ الكتاب شكلا رمزيا صرفا ليعبر عن إحدى أزمات الفكر مثل الرقابة، أو المصادرة أو حرق الكتب التى اقترنت بتاريخ الكتاب. ليس فقط لأن الأفكار التي يحتويها بين دفتيه خطيرة ومهدِدة لسلطة ما، ولكن أيضا لأن الورق مادة هشة يمكن حرقها بسهولة، والمُعبِّر بدقة عن رقة مادة الفكر وهشاشتها، وليس مثل الكتب القديمة التى كانت تُنحت على الطين، جدران المعابد، جلد الماعز، أو على العظام. وفى هذه الحالة الرمزية يمكن أن يأخذ الكتاب شكل طائر محبوس، أو شكل المسيح وهو مصلوب والمسامير تخترق جسده. وأحيانا أخرى يأخذ الكتاب شكلا نحتيا، عندما تستخدم أوراق الكتاب نفسها كخامة، بدون النظر إلى معناه أو مضمونه أو رمزيته. خامة مثل الصلصال أو العجائن التى يتشكل منها تجسيم مختلف فى الفراغ. وفى هذه الحالة يتجرد الكتاب من شكله ورمزيته التقليديتين ليدخل فى طور جديد من الأشكال الجمالية. فاروق شحاتة فى الطفولة كانت تتكاثر من حولنا تلك الكتب التى تخبئ مفاجأة بداخلها. عندما تفتحها ينتصب أمامك مسرح يشغله أحد الأشكال التمثيلية أو الطبيعية مانحا الكتاب صفة الكون الحافظ بين دفتيه لهذا المنظر الطبيعى أو لهذه الحكاية التخيلية، بعد أن رد الكتابُ البعدَ الواحدَ للحكاية المقروءة لأبعادها الثلاثة، وهى خطوة للوراء فى طريق تطور الفكر، ولكنها هامة كونها خطوة التعلُّم والتماهى والتجسيم والطفولة. أصبح الكتاب راوي حكايات مجسمة بعد أن كان راوي حكايات مقروءة. فى أحد أشكال تأويل الكتاب فى البينالى تحول خلالها إلى شاشة مضيئة تروى الحكايات كخيال الظل، أو كصندوق الدنيا، كأن هذا الكتاب كتاب تاريخى يأتى من زمن الطفولة ويعيش فى خيال صاحبه/ صاحبته مصحوبا بالحكايات والحواديت. بالتأكيد تاريخ أول ملامسة للكتاب لا بد وأن يعود للطفولة، سواء طفولة الفرد أو طفولة العالم، عندما بدأ الفكر يبحث عن أشكال ليعيش بداخلها خالدا. وعندما بدأنا نبحث لنا، كأطفال، عن أشكال يتجسد فيها خيالنا. شادي سلامة "لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي". فى هذه الآية رقم 109 من سورة الكهف، يقف البحر ككتاب مملوء بالحبر المقدس. وربما هى أول صور الكتب المقدسة المؤولة. أغلب الكتب فى البينالى، وعلى قلتها قياسا بالأشكال الأخرى المؤولة؛ يقف بجانبها نصوص دالة، سواء كان عنوان العمل أو بعض أبيات الشعر، أو غيرها. هناك جملة لها حكمتها أو فلسفتها القوية، كون هذا الكتاب، فى نظر صاحبه/ صاحبته؛ وثيقة مقدسة للحياة وللفكر، تقبض على لحظة لا يمكن أن يستهان بها فيتم الاحتفاظ بداخلها على خطاب القلب، أو اللا وعى، أو بمصارحة بأحد الذنوب الكبرى، أو باستشهاد شعري خالد، أيًّا كان سبب خلوده. هنا خلاصة لتجربة ورحلة. حدث تحوير لفكرة "الكتاب"، وخرجت منه أفكار وأشكال كثيرة أحيانا تلغى الفكرة/ الشكل الأصلى، بل تمحوها، خاصة فى الأعمال المركبة "الأنستليشن" المعروضة فى البينالى. فقد طغى التأويل عن الأصل بحيث اختفى الأصل تماما ولم يعد له إلا وجود رمزي. دائما سيُطرح هذا التساؤل من المشاهد: عند أى حد سيتم استخدام أى مفردة فى الحياة سواء فنية أو فكرية، وما حدود تأويلها؟ وهل هناك حياة خالدة لأى فن، أو لأى تفريعة حياتية منه؟ هل لأننا فى عصور التسجيل والتوثيق فلن ننسى أو نهمل شيئا من مقتنياتنا التاريخية؟ ألا يهرم هذا الفن/ الفكر فى لحظة ما؟ من يمد فى أجل الفنون ومن يضبط شيخوختها، ومن يحيلها إلى المعاش؟ هل هناك رغبة تقف وراء أى فكرة/ فن تطيل من حياته حتى ولو جاوز زمن تألقه؟ ربما كلها أسئلة فى حاجة لإجابة، أو لحوائط تصطدم بها، لصدى، وإلا سنتصور العالم بلا ضفاف أو حوائط، وأن كل ما ننتجه سيذهب بلا عودة أو صدى، ولا توجد رغبة حقيقية فى الحفاظ عليه من كل النزعات الفنية والفكرية التى تتوالد من نفسها وبنفسها. لويس ألبرتو هرناندز فى مجمل حياتنا، لكلٍّ منا "كتاب خاص"، ذلك الكتاب الذى دوّن به ملاحظاته الخاصة، أو تلك الجمل التى انتزعها من رواياته، أو الجمل العارضة بجانب الرسوم العشوائية أثناء المحاضرات المملة وسط زقزقات العصافير، حيث الطبيعة كانت تقف على حافة قاعات الدرس تنتظر خروجنا. أو تلك الشخبطات على المناديل الورقية أثناء ساعات الانتظار للقطارات، حيث تنتظرنا رحلة ما تجذب وتشد الصور من مخيلة طفولتنا. هناك "كتاب فنان" أو "رواية" متناثرة ومدفونة فى قاع كل ذاكرة، بنينا فوقها الأدوار العليا من الخرسانة المسلحة لحياتنا الحديثة. إتزيو جريباودو أحمد جعفري بطرس المعري بيسى سميث مولتون محمد عبلة