يُحكى أن سقراط كان جالسًا في دائرة بين تلاميذه يتبادلون الحديث ويتجادلون في قضايا فكرية مختلفة، يطرحون الآراء وهو يصوب ويصحح. وفي أثناء السجال وتبادل الأفكار بين الأستاذ وتلاميذه ظل أحدهم صامتًا لا يشترك فيما يدور من حديث، فنظر إليه سقراط، وقال جملته الشهيرة: تكلم حتى أراك. ثلاث كلمات تحمل معانى ودلالات كثيرة. فالكلام هو مرآة الشخص، يعكس ما بداخله ويخبرعن أفكاره وقناعاته، بل وعن حالته النفسية والعقلية أيضًا. الكلام يجعلك تحترم قائله حتى وإن اختلفت معه في الرأي، أو قد يجعلك تفقد احترامك له وثقتك به. ليس فقط الكلام الذي يقال ولكنه أيضًا الأسلوب والتوقيت والمحل والجمع الذي يلقى فيه الكلام، يرفع الكلام المتحدث أو يسقطه، بل قد ينقذ أممًا أو يجرها إلى الهلاك. ليس المنصب أو المؤهل أو المكانة، بل الكلام هو الذي يخبرنا إذا كان المتحدث عاقلا أم مهووسًا، متزنًا أم خائفًا، عادلا أم ظالمًا، صادقًا أم كاذبًا. تكلم الرئيس اليوم في ذكرى تحرير سيناء فماذا رأيت؟ رأيت رئيسًا يتحدث عن "التمسك بتراب الوطن" وعن"الدماء التي اختلطت بالأرض" لاستعادتها، على الرغم من تنازله عن جزيرتي تيران وصنافير للمملكة العربية السعودية، وقراره المنفرد بالتفريط في الأرض وسط غضب جماهيري واسع وفي تجاهل مروع للشعب صاحب الأرض وللدستور ولمؤسسات الدولة. رأيت رئيسًا يتكلم عن ذكرى تحرير سيناء و"ملحمة استرداد الأرض كمنبع تنهل منه الأجيال القادمة معاني العزة والكرامة والحفاظ على أرض الوطن"، بعد أن تم التعدي على حقوق وملكية الأجيال القادمة. رأيت رئيسًا متحدثًا عن أننا صف واحد، متجاهلاً الغضب المشتعل بالشارع المصري بسبب صفقة التنازل عن الأرض، ومتناسيًا الغليان الذي حدث في يوم الجمعة الماضية والمتوقع أن يتكرر حدوثه غدًا. رأيت رئيسًا لا يعطي وزنًا أو اهتمامًا بالرأي الآخر، مصرًّا على ما قاله في حديثه للأسرة المصرية في منتصف هذا الشهر، بعدم السماح بالحديث أو التطرق لموضوع التنازل وكأنه أمر مقضي، "ماحدش يتكلم في الموضوع ده تاني"، لأنه لم يشر إليه فى حديثه اليوم، ولا يريد على ما يبدو أن يتذكره أو أن يذكره أحد بما فعله. رأيت رئيسًا متجهمًا مقتضبًا على غير عادته، منكرًا للواقع ومصرًّا على أننا صف واحد، على الرغم من انقسام الصف المصري للأسف الشديد إلى عدة جبهات، ومتحدثًا عن "براعة الدبلوماسية المصرية" متناسيًا فشل هذه الدبلوماسية مؤخرًا على جميع الأصعدة، بدءًا من سد النهضة، إلى قضية مقتل ريجيني، وانتهاء بكارثة الادعاء والاستماتة في الدفع بأن الجزيرتين ليستا أرضًا مصرية، في سابقة لم تحدث في أي من دبلوماسيات العالم. رأيت رئيسًا مصرًّا على الاستمرار فى نهج أسلافه من عدم الاعتبار مما سبق، وتجاهل الرأي الآخر، والاستهانة بغضب الشارع، وما أدراك ما غضب الشارع! رأيت رئيسًا متشبثًا باستراتيجية التخويف من "المخططات والمؤامرات" التي تحاك لمصر من الخارج، والترهيب من "قوى الشر" التي تسعى لزعزعة الثقة في الدولة ومؤسساتها، متجاهلا ما تقوم به مؤسسات الدولة بنفسها من زعزعة مصداقيتها في الداخل والخارج، وتجاوزاتها المتكررة في الحقوق وفشلها فى الأداء. رأيت رئيسًا لا يرى الواقع، متحدثًا عن الاستقرار على الرغم من وجود الاستنفار في كل مكان، وبالتزامن مع حملات قبض عشوائية على الشباب والمحامين والصحفيين وكل صاحب رأي معارض، في انتهاك صارخ للدستور والقانون وفي تناقض واضح مع ادعاءات الاستقرار. رأيت رئيسًا مهونًا للأزمة الاقتصادية الطاحنة واصفًا انخفاض الجنيه المصرى أمام الدولار بالتذبذب، وليس انهيارًا وسقوطًا مدويًّا اقترب من 50% من قيمة الجنيه المصري في غضون شهرين فقط. رأيته يتحدث عن الدستور، الذي يتم تجاهله وانتهاك نصوصه باستمرار، ويتكلم عن دولة القانون الذي لا تحترمه ولا تطبقه مؤسسات الدولة، بدءًا من الاعتقالات والتعدي على الحقوق والحريات العامة، إلى التصفيات الجسدية والتعذيب، ومرورًا بالعدالة الانتقائية في تطبيق القانون، وتلفيق تهم ازدراء الأديان، وعزل رئيس جهاز الرقابة الإدارية لمحاربته الفساد، وانتهاءً بالتنازل عن أراض مصرية بقرار منفرد. رأيت رئيسًا متأثرًا بخلفيته العسكرية فكرًا وممارسة، يستحضر القوات المسلحة دائمًا لتقديم حلول مؤقتة لطمأنة البسطاء، وتكليفها "بتوزيع سلع أساسية لمحدودي الدخل"، ويلجأ إليها دائمًا لتسكين الآلام بدلا من تقديم العلاج الشافى عن طريق مؤسسات ووزارات الدولة التي يجب أن تكون معنية بذلك وبصورة فعالة ومستمرة. رأيت وسمعت كلامًا مكررًا عن المشروعات والإنجازات التي إن صدقت لكانت كفيلة بإخراجنا من الضائقة المالية التي تمر بها البلاد، وما كان اضطر إلى اللجوء لصفقة بيع الأرض المهينة. وسمعت مجددًا إشارة وفخرًا بمشروعات الطرق التى لا تغني ولا تسمن من جوع وحدها، والتي أهدرت بها المليارات بدلا من استثمارها فى مشروعات إنتاجية صناعية وزراعية، توفر دخلًا وفرص عمل وتحقق تنمية مستدامة وتعظم الدخل القومى، واستثمارها في التعليم لكي تصلح العقول التى غيبت وأودت بنا إلى الكثير مما نحن فيه الآن من تأخر وطائفية وغياب للفكر والوعي. تكلم الرئيس، فرأيت رئيسًا لا يدرك خطورة غليان الشارع ليلة عيد تحرير الأرض، الخامس والعشرين من أبريل.