في بؤرة المكان ووسط جغرافيته المغايرة لكل ما سواها يقف السارد في رواية "خيرالله الجبل" ليحكي في لغة حميمية خاصة عن حياة ومصائر وأحلام سكان هذا المكان، ومن المدهش أن تكون رواية "خير الله الجبل" هي العمل الأول لكاتبها، علاء فرغلي، لما تحمله من قدر كبير من الحرفية يؤشر إلى معرفة الكاتب بعالمه واستيعابه لكافة تفاصيله. ومن خلال التحليل النقدي لشريحتين تتعلقان بلغة النص والبناء الدلالي يتكشف من السطور الأولى للرواية أن اللغة تنقسم إلى مستويين، أحدهما هو مستوى السرد والآخر هو مستوى الحوار الذي يجري على ألسنة الشخصيات بشكل يتناسب وطبيعتها، حتى أن الكاتب لم يدّخر ألفاظا خشنة لتعبر بها بعض الشخصيات عن نفسها بما يليق بطبيعتها وثقافتها دون افتعال أو إسراف حيث جاءت كافة هذه المفردات في مواضعها وبما يخل تغييرها بفحوى مضامين الحوار وماهيته. أما لغة السرد ذاته فجاءت محمّلة بالتقمّص الاجتماعي والنفسي لبيئة وشخصيات العمل، على الرغم من أن الراوي داخل العمل هو راو عليم، مطلع على سرائر الشخصيات وخفاياها كاطلاعه على أفعالها وسلوكها بما يتيح له استخدام لغة سردية خاصة بالسارد ذاته، لغة محملة بالتعبيرات والاصطلاحات الثقافية والتي ربما تعلو عدة درجات عن لغة العمل الذي تدور أحداثه في بيئة "خير الله الجبل" تلك البيئة العشوائية الفقيرة التي تقع في قلب العاصمة لكنها بعيدة عن كل مظاهرها. لكن اللغة السردية جاءت قريبة من لغة الحوار وبيئته محملة بنوع من المراوغة والاشتباه الذي ربما يخدع القارئ في طبيعة الراوي، فيعتقد أنه راو عضوي مشارك في أحداث القصة كأحد شخصياتها من خلال التضفير والتقمص لروح الشخصيات في لغة السرد المستخدمة، وهو ما يشي أيضا بتعاطف الراوي مع هذه الشخصيات التي يتقمص أرواحها وإطارها الاجتماعي، ليس فقط في مواطن السرد وإنما في تلك المواطن الواصفة، إلى درجة أن بعض هذه التوصيفات قد تكون خالية من الأوصاف الجمالية المألوفة لصالح مفردات ومشبهات أكثر خشونة، فهو يقول على سبيل المثال: "كانت صالحين، حين وضعت (البستلة) فوق رأسها وسارت تحت ثقلها بتؤدة تشد قامتها وتضع قدما أمام قدم، تبلل جلابيتها قطراتُ المياه المتساقطة، تمثالا منحوتا من رخام مرمري أبيض، أقرب شبها بالممثلة ليلى حمادة التي تحتفظ بصورتها، صالحين مطبوعة فوق غلاف ألبوم صور قديم. لم تعامل جسدها يوما كأنثى، ولم يرها الآخرون بهذه العين. لكنها إذ ذاك كشفت عن خصر يمكن وضعه في واحدة من الغوايش التي تكسو ذراع زوجة عظيم الضبع، وسمانتين لماعتين كالنجوم التي كان يضعها أبوعصام الضابط فوق كتفيه ويحرص على دعكها كل مساء بنصف ليمونة ممصوصة، ومنحنى في نهاية سلسلة الظهر كمطلع الزهراء يصيب الناظرين إليه بالإجهاد". هنا تعلو اللغة التي تعتمل في الخيال الذكوري الذي يسود في مثل هذه البيئة، وهكذا تأتي لغة الوصف التي يعتمدها السارد محملة بالإشارات والمفردات المستقاة من عالم "خير الله الجبل"، فيما يشبه التماهي بين الراوي العليم ومن يروي عنهم، ليبدو جليا التماسك العضوي داخل العمل، عندما تتقارب لغة السرد مع لغة الحوار، وعندما يتبنى السارد لغة قريبة ومتماهية إلى حد كبير مع لغة الشخوص والبيئة ومتقمصة لمشاعرها، يبدو النص أكثر تماسكا بانحصاره في لغة المكان وأبطاله. وهو ما يؤيده كذلك تجنُّب السارد إلى حد بعيد شحن النص بالمفردات الاصطلاحية أو الثقافية المتعالية عن لغة العامة، وكأنّه يتعاطف مع شخوص الرواية إلى الحد الذي منعه من استخدام ما لا يستطيعون استيعابه، ولم تتسم الجملة السردية المستخدمة في النص بالطول الذي قد يفقد القارئ القدرة على الإمساك بأطرافها، فبدا السارد مسيطرا على سيولة الجمل فلم يسمح لها بالاستطالة الزائدة عن الحد. أما على مستوى البناء الدلالي، والذي يُعني بالأدوات أو الحيل التي من خلالها يهيأ الكاتب المناخ الذي يتغياه في نصه، فيتضح أن التضفير بين السرد والحوار سمة بارزة في النص أضفت حسّا واقعيا من خلال إيجاد مساحات من الحوار للشخصيات يسمح لها بالإعلان المباشر عن ذواتها، كما عززت من انتماء الرواية إلى الواقعية، بما يتيح للقارئ محاكمة النص والحكم على منطقية أحداثه وفقا لهذا المنظور. الجغرافيا ظهرت الجغرافيا المكانية كسِمَةٍ رئيسية مميزة للنص، إلى درجة أن الكاتب لا يكاد يخرج في سرده من هذا المكان حتى يعود أدراجه سريعا بحيث يصبح كل ما هو خارج "خيرالله" هامشيا، ولا يتجاوز السرد خارج بيئة خيرالله المكانية أكثر من مشهد هنا أو لقطة هناك ثم يعود سريعا إلى المكان الأم الذي تنطلق منه وتعود إليه كافة الأحداث والشخصيات. الجغرافيا متسيّدة، وهي جغرافيا غير معتادة تختلف عن جغرافيا المدينة والريف والعاصمة والحي الشعبي وغيره. ولهذا يلجأ السارد إلى نقل مشاهد بصرية دقيقة مشحونة بالتفاصيل، لأنه لا توجد خلفية معرفية مشتركة حول هذه البيئة بين الكاتب والقارئ تغنيه عن وصفها بهذه الدقة. منطقة خيرالله هي منطقة عشوائية تبدو مغتربة عن العالم، مهمشة، بما يستلزم التدخل من الكاتب بكثير من التفاصيل لينقل للمتلقي البعيد روح المكان وجسده، وهنا يأتي دور ما يمكن تسميته بالخبرة البصرية والخبرة الاجتماعية الدقيقة، والتي تعتبر محورا من محاور الأداء الدلالي، فيصف مثلا عملية البناء البدائية وكيف تتم، وعملية تقطيع الأحجار ونقل المياه والعقارب التي تسكن الشقوق وغيرها من تفاصيل الحياة اليومية في هذا المكان، وعلى الرغم من إثراء النص بالكثير من هذه التفاصيل إلا أنها لم تكن عبئا عليه، بل كانت تفاصيل ضرورية للقارئ الذي غالبا لا يعلم شيئا عنها، وهو ما أكسب النص ثقلا يسحب القارئ إلى أرضيته، ويورطه داخل العمل ويجعله جزءا منه. الزمن ثم اللعب على محور الزمن، إذ لجأ السارد إلى لعبة الحكي متعدد الأزمنة، حيث يمكن حكي الحدث الروائي في أكثر من زمن، مرة فلاش باك، ومرة في الزمن الآني ومرة أخرى في المستقبل، ففي نهاية الفصل الأول على سبيل المثال يقول "الجوال الذي سيسقط بما فيه وبعد سنوات فوق رأسي حنفي وأبو تلاتة في محاولتهما تذوق لحم البنت صالحين!"، لترد هذه الواقعة أكثر تفصيلا في موضع آخر من الرواية تكون فيه الأحدث قد تطورت بتطور الزمن ومروره. وهو أسلوب اعتمده القرآن الكريم في كثير من قصصه التي حكاها في أكثر من موطن بأكثر من زاوية، رغم أن زمنها واحد، وفي كل مرة يكتسب الحدث فعالية ما، فبعض الأحداث تؤثر في تاريخ الشخصية بحيث تسير معها وتحدد نمط سلوكها وتفكيرها في كثير من الأحيان. كما أن هذه الانتقالات الزمنية تدفع القارئ أحيانا لأن يتحسّس خطواته داخل المكان حتى يستطيع الإمساك بالزمن، هي أشبه بلعبة التتبع أو الإرباك الذي يدفع إلى الانتباه والتأمل واليقظة ليظل على وعي بالزمن الذي يدور به الحدث. خيرالله الجبل هي راوية ممتعة وجاذبة للانتباه، وتحمل الكثير من النضج وتحسب في رصيد كاتبها.