فى الليلة الظلماء نفتقد البدر، ليالينا كلها منذ أن خيّم على سمائنا الكابوس الإخوانى، أصبحت مثل نهارنا كالحة السواد، ولهذا نستجير بالبدر فاتن حمامة، شدّت فاتن الرحال قبل أيام إلى لبنان، لكى تحضر تكريمها ضمن أربعة من كبار المبدعين، فيلسوف وعالم فضاء ورجل اقتصاد، للحصول على الدكتوراه الفخرية من الجامعة الأمريكية فى بيروت، تبدو الفرصة الآن مواتية لكى نكتب عن فاتن، هل ينبغى أن ننتظر مناسبة حتى نكتب عن فاتن؟ الحقيقة هى أن فاتن لا تحتاج إلى مناسبة، عدد قليل جدًّا من المبدعين لا يقدمون فقط بصمة خاصة فى مجالهم الفنى، ولكنهم يصبحون الفن نفسه، هيتشكوك مثلًا لم يكن مجرد مخرج مبدع، ولكنه صار يعنى فى دنيا السينما الإخراج، أم كلثوم ليست هى الصوت المعجز، ولكنها هى الغناء، حضور فاتن على الشاشة لم يُحِلها فقط إلى ممثلة استثنائية بل هى التمثيل. لست من أنصار حزب زمن الفن الجميل، أقصد هؤلاء الذين دائمًا ما يبخسون حق الحاضر وهم يتغزّلون فى الماضى، يعتقدون أن الجمال مجرد زرع ينبت فى زمن ثم يتغيّر المناخ، فلا تعد أرض الإبداع تطرح ثمارًا، إنها بالتأكيد نظرة قاصرة جدًّا تظلم الحاضر وتدين فى نفس الوقت الماضى، لأنه لم يكن يحمل بداخله «جينات» الاستمرار، وهذا بالطبع يتنافى مع حقيقة الحياة. لكل زمن إيقاعه ومفرداته وقانونه ونجومه وأيضًا جماله، إلا أنه تظل دائمًا هناك استثناءات، إنه الفنان الذى يعيش معنا فى زمن ويظل محتفظًا بمكانته فى زمن آخر، الفنان الذى لا ننتظر منه حضورًا مباشرًا، ليظل حاضرًا، هذا التوصيف يتجسّد أمامى دائمًا مع فاتن!! إنها الطفلة الصغيرة فى فيلم «يوم سعيد» للمخرج محمد كريم، لم تبلغ التاسعة عام 1940 حتى وصلت وهى تقف على مشارف السبعين إلى مسلسل «وجه القمر» للمخرج عادل الأعصر، وذلك فى آخر ظهور فنى لها قبل نحو 13 سنة، نعم طال زمن الغياب، ولكن مثلما عرفها الناس وهى طفلة ونضجت معهم، فإن غيابها لا يعنى أبدًا أنها لم تعد تشغل مساحة فى أعماقهم، فهى لا تزال أيضًا تواصل إبداعها على شاشة القلوب، إنه الحب من أول لقطة، الجيل الذى شاهدها وهى طفلة كبر معها، والأجيال التى لم تعاصر ذلك الزمن أصبح لديها سجل كامل حافل بكل سنوات عمر فاتن حمامة، إنها السينما عندما تحفر فى ذاكرة الناس ملامح وإحساسًا يكبران معهم مثلما هم أيضًا يكبرون، بالطبع لم يطلب منها أحد التخطيط لذلك، ولا هى فكرت فى أنه مع الزمن سوف تدعم تلك اللقطات وهى طفلة مشوارها عند الناس، وقوفها كطفلة منحها حميمية ودفئًا فى كل لقاءاتها التالية مع الجمهور. يحصى عادة الشعراء والملحنون عدد لقاءاتهم مع أم كلثوم ويعتبرونها بمثابة شهادات بالتفوق، والحال أيضًا تكرر مع فاتن، بل كانت هى حلم المخرجين من جيل نهاية الأربعينيات والخمسينيات، وحتى جيل التسعينيات، مثل حسن الإمام وصلاح أبو سيف وهنرى بركات وكمال الشيخ ويوسف شاهين، الذين تعوّدنا أن نطلق عليهم مخرجى العصر الذهبى للسينما، وحتى تصل إلى جيل داوود عبد السيد وخيرى بشارة، وكانت لها مشروعات لم تكتمل مع كل من عاطف الطيب ومحمد خان وشريف عرفة. إنها الفنانة التى اختارها الجمهور والنقاد بإرادة حرة، لتحمل لقب «سيدة الشاشة العربية»، ثم يمنحوها بعد ذلك لقب «فنانة القرن»، عطاؤها هو الذى حقق لها تلك المكانة، وفى عام 1996 عندما أُقيم أول استفتاء لأفضل مئة فيلم فى تاريخ السينما المصرية، حظيت فاتن حمامة بالمركز الأول، ولها رصيد 10 أفلام، الوحيدة التى كانت تلاحقها فى الأرقام هى سعاد حسنى، 9 أفلام، الأفلام العشرة حسب أسبقية عرضها جماهيريًّا هى «ابن النيل» يوسف شاهين، و«لك يوم يا ظالم» صلاح أبو سيف، و«المنزل رقم 13» كمال الشيخ، و«صراع فى الوادى» يوسف شاهين، و«أيامنا الحلوة» حلمى حليم، و«بين الأطلال» عز الدين ذو الفقار، و«دعاء الكروان» و«الحرام» بركات، و«إمبراطورية ميم» حسين كمال، و«أريد حلًّا» سعيد مرزوق. لم تغب مصر عن فاتن، قالت فى بيروت إن التكريم رد عملى على مَن يتأبّطون شرًّا بالفن والثقافة، ولا تزال فاتن تضىء ليالينا وتُنعش أيامنا!!