نحن من أدار الأزمة بسخف وجعل منها أمرًا مخزيًا على هذا النحو. القصة هنا لا تتعلق كما يقول الطليان بكرامتهم ولا برغبتهم فى معرفة حقيقة ما جرى لمواطنهم جوليو ريجيني، الذى عثر على جثته ملقاة على طريق الإسكندرية الصحراوى قبل نحو شهر. فى الواقع لم تكن جثة، بل مجرد أنف، مكنت أمه المكلومة من التعرف على هوية ابنها. فى وقت سابق هددت الأم بنشر صورة جثة ابنها فى المشرحة، فقد رأت "في قتله الهمجي تجسيدًا لكل الشر الموجود في العالم" كما قالت. الطليان المسكونون بروح المافيا وخبراتهم الدامية السيئة معها، لن يقبلوا بدفع ثمن لنصف الحقيقة. هذا أمر لم يفهمه أحد ممن أوكلت إليهم مهمة إدارة القضية. تعاملنا مع القضية كما نفعل فى شئوننا الداخلية، حيث الاستسهال والتنطع كانا، بكل أسف وبدون خجل ممن فعلوه، هما سيد الموقف. ظن أحدهم فى وزارة الداخلية أن الطليان سيشترون بضاعتنا الراكدة التى اعتدنا عليها. فى كل يوم تخرج بيانات مصرية رسمية تعقد الأمور مع أهم حليف استراتيجيى بكل المقاييس لنا على سواحل المتوسط الأوروبى. عبثٌ ما فعلناه وما نفلعه، أفلام المقاولات السينمائية الهابطة التى ننتجها لم تعد تقنع أحدًا ويتعين أن نتوقف على الفور عن صنعها. أخطأ الرئيس منذ البداية، تلميحه إلى تورط أطراف خارجية كان كاشفا لحقيقة أن الكثير من المعلومات المغلوطة لا يزال يقدم للرئيس. نظرية المؤامرة التى نعول عليها كثيرًا، لم تفلح فى إقناع روما بأن القاهرة جادة فى منحها كل التفاصيل. أية أطراف خارجية هى.. تلك التى يمكن أن تنفذ عملية بهذا الشكل وبتلك الطريقة؟ وكيف سمحنا لها من الأصل بأن تمرح وتصول وتجول فى شوارع القاهرة فى يوم كانت المدينة فيه فى قبضة الأمن. رواية الحكومة بكل أجهزتها لم تصمد كثيرًا فى مواجهة التساؤلات المريرة والكثيرة. القصص المنتجة هنا حول ظروف موت ريجينى على هذا النحو لم تفلح فى تهدئة عائلته ولا حكومته ولا شعبه، والخطر أنها تركت فى حلوقنا غصة من طريقة التعامل مع هذه الملفات. أخطات الدولة المصرية فى التعامل مع المسألة على نحو يدفع إيطاليا إلى إشهار عصا التهديد بتدابير فورية، كما قال وزير خارجيتها أمس. قد يسحب الطليان سفيرهم وقد يقطعون العلاقات، وقد نضطر إلى رد مماثل فى إطار التصعيد الممجوج.. لكن الأخطر أننا سنفقد عيوننا فى شواطئ أوروبا، فى وقت لا نتحمل فيه ترف العمى.. لكن الحقيقة التى لا تموت ستترك من تواطؤوا لإخفائها عرايا فى مواجهة الشمس. من يظن أن القصة لا تستحق كل هذا الجدل عليه أن يراجع نفسه ومواقفه. على أحدنا أن يهمس فى أذن الرئيس: هل يستحق الأمر أن نفقد حليفا تقليديا فى أوروبا بحجم إيطاليا؟ هل يمكنك أن تطلب ولو مرة واحدة من الأجهزة المتصارعة حولك أن تكف عن هذا العبث، وأن تجلس لتحكى لك ولنا وللإيطاليين بشفافية مفقودة كل ما جرى للإيطالى المقتول؟ يا ريس: ليس دائمًا أو صحيحًا أن "الحق على الطليان". وأزمة ريجينى صحيح أنها مؤشر خطير على عبث يجب أن يتوقف فى مؤسسات الدولة، لكنها كاشفة لنا أيضا عن آخر ما كنا نتوقعه، وهو أن الرئيس بات مثلنا لا يعلم بالضرورة كل الحقيقة كاملةً!