هذه الجملة ما أقساها على من يسمعها ويفهمها، وقسوتها فى قدرتها على ترجمة أحد أحوالنا، وأخطر أخطائنا، وفى التأكيد على أن العالم يرانا هكذا، كما أراد له أصحاب الإرادة والقائمين على اختيار الطريق، أن يرى دون أن يكون متجنياً أو مغالياً. من حق "باولا روجينى" أن تتحدث هكذا باستنكار، "عذبوه وقتلوه.. كما لو كان مصرياً" لا تحتاج لجهد لتقنع أعضاء البرلمان الإيطالى أن نجلها "جوليو ريجينى" الباحث الشاب المقتول فى مصر، ليس حالة فردية، إذا ما تم النظر له باعتباره إنساناً، فهناك مئات غيره، يختفون فى هذه البقعة من العالم، منهم من يقضى نحبه، فتظهر له جثة تتحدث عن بشاعة ما تعرض له، ومنهم من ينتظر، وينتظر معه الأهل أملاً فى معرفة مصيره، غير أولئك الذين ثبت فى حقهم التعذيب والاعتداء، والموت فى أماكن الاحتجاز. قالتها "باولا" بوضوح جارح، قد يكون "جوليو" أول إيطالى يموت بهذه البشاعة، لكنه ليس أول إنسان يتعرض لهذا المصير فى مصر، ولا يوجد ما يؤشر على أنه من الممكن أن يكون آخر إنسان. كلام "باولا" ترجمته صحيفة "كورييري دي لا سييرا الإيطالية"، حين رسمت وجه "جوليو" بوجوه 533 مواطناً مصرياً اختفوا قسرياً خلال الثمانية أشهر الأخيرة فقط، "جوليو" ليس حادثاً فردياً، أعرف ذلك كما تعرفه ويعرفه من فى السلطة ومن على تخومها ومن يتطوعون للدفاع عنها، هذه سياسة فتحت الباب لهذا الاعتياد. القتل والاخفاء صار اعتياداً فى مصر، مناخ يدعم إيذاء المختلفين ويحرض عليه، وسياسات تحمى المتجاوزين إلى آخر نفس يمكن من خلاله مقاومة الضغط. *** تأمل الصورة جيداً.. لهم ريجيني واحد.. ولنا المئات لكن صورة الواحد تأخذ حجمها الطبيعي بفعل احترام وطن لمواطنيه.. فيما يحتاج الآخرون لتفتيش في التفاصيل لعل ملامحاً تظهر. وقصصاً تطفو، في وطن أصبح فيه القتل اعتيادا والاخفاء روتينا وحق الحياة غير مكترث به. لماذا إذن لا يصدق علينا قول أم ريجينى "قتلوه كما لو كان مصرياً"؟ هل سمعت الجملة؟ هل سمعها مذيعو السلطة وأبواقها؟ هل سمعتها السلطة؟ هل سمعها الرئيس؟ حاول أن تسمعها من جديد.. تخيل أنها تتردد فى الفضاء كمأثورات الأقوال السينمائية، فيما يوشك الفيلم على النهاية: "قتلوه.. كما لو كان مصرياً.. قتلوه كما لو كان مصرياً.. قتلوه كما لو كان مصرياً" *** مات ريجينى لأن قبله مئات ماتوا، عُذب لأن قبله مئات عُذبوا، أُخفى لأن قبله مئات أخفوا، تلك نهايات منطقية، الأرجح أن السلطة ما كانت تتمنى أن يموت تحت مسؤوليتها أجنبى واحد وينتمى لبلد مهم، لأبنائه ثمن حتى إن هناك من يستنكر أن يُعاملوا كالمصريين فى القتل والتعذيب، لكنه من غير المنطقى أن تسمح بأن يعتاد وحش القتل والإيذاء والتعذيب والإخفاء، وأن تجد له من التبريرات القانونية والإعلامية والسياسية، ما يشرعن بها قسوته، ويُفلت بها من الحساب، ثم تطلب منه أن يفرز ضحاياه بدقة، وأن يضمن ألا يكون بينهم من تقف خلفه دولة أو قبيلة أو عشيرة أو نقابة قوية أو أم قادرة أن تستمد من جرحها ما يجعلها تقض مضاجع الرسميين فى بلادها قبل بلادنا، لأن الوحش الذى تعلم الافتراس، لا وقت ولا عقل لديه ليفكر قبل أن يمارس ما يعتبره طبيعياً، يتعبد به إلى الله والوطن، أنه يحمى البلاد والعباد من الخونة والجواسيس. *** هذه "نكسة ريجينى" هذا هو الاسم المناسب.. 5 أبريل الذى حددته إيطاليا موعداً للقاء وفد أمنى مصرى مطلوب منه أن يحسم المسألة ويقدم الجناة الحقيقيين بعد مراوغة طويلة، يشبه 5 يونيه فى كل شىء. لم يكن الوصول إلى 5 يونيو مستغرباً مع سياسات ومغامرات أجهزة ومؤسسات تركت مهامها الأساسية وتفرغت للتنافس السياسى، والسيطرة على الناس وقهرهم وإرهابهم وإسكاتهم، ثم رسم سيناريوهات كاذبة تماماً وملفقة عن الانتصار. ولم يكن الوصول إلى 5 أبريل مستغرباً مع سياسات شبيهة، عززت التوتر ووسعت الاشتباه، وخلقت من كل مواطن متهماً إلى أن يثبت العكس، وأحياناً يكون متهماً دون امتلاك الفرصة على إثبات العكس، ومن كل أجنبى جاسوس، ومن كل خطاب نقدى مؤامرة وخيانة، رغم إن الانصات للانتقادات التى اعترضت من البدء على شرعنة سياسات لا تكترث بموت البشر ولا تهتم بجلب حق من مات طالما لم يكن له من يتصدر ويضغط، على نحو ما فعل أهل الدرب الأحمر والأطباء وأهل الأقصر مع ما جرى لمنسوبين لهم، كان يمكن أن يلجم هذا الجنون، ويمنع استسهال قتل الأجانب بعد استسهال قتل المصريين. هذا الخطاب النقدى هو ذاته الذى طلب ومن البداية التعامل بجدية مع واقعة خطف جوليو، ومع اكتشاف موته، وتقديم متهم حقيقى، لكن سيناريوهات الإفلات، من تلفيق الشهادات والشهود، لتلفيق العصابات، أضافت المزيد من الشبهات لسلطة مشتبه فيها من الأساس، بفعل سجلها وماضيها. ومثلما تعافى الوطن بعد 5 يونيو باعتراف بالتقصير، واعتراف بالأخطاء، وتصحيح ومحاكمات، وإعادة تأهيل المؤسسات لتلعب الأدوار الموكولة لها بطابعها المهنى دون انخراط فى السياسية، لن يبدأ هذا الوطن فى التعافى بعد الخامس من إبريل سوى بإجراءات مماثلة، اعتراف وتصحيح ومحاسبة وإعادة تأهيل، ورسم أدوار طبيعية لكل مؤسسة تنسجم مع دورها الطبيعى دون تغول. غير ذلك لا يعنى سوى أن تستمر فى حشد الخصوم، مع كل مظلمة، وانصراف المزيد من المؤيدين والمتعاطفين والمتعايشين.. هل كنت تتوقع يوماً أن تنظر لك أم أجنبية وليست طرفاً فى أى صراع، ولا هى إخوان ولا من النشطاء، اسمها "باولا ريجينى" هذه النظرة القاسية.. كم أم لكم ريجينى فى مصر يشاطرنها النظرة ذاتها؟ أوقفوا التعذيب والإخفاء بجدية.. لأن براميل الغضب فى النهاية تنفجر فى وجوهكم قبل وجوهنا.. هذه نصيحة مسجلة.