إيران بلا أحزاب سياسية حقيقية ولا توجد سوى جبهات وائتلافات عريضة من إصلاحيين ومحافظين ومعتدلين فى شوارع طهران اللون الأخضر فى كل مكان. أعمدة الإضاءة، الكبارى والفواصل الحديدية بين الطرق، أكشاك تليفونات ومحلات بيع صحف كلها لُوِّنت بالأخضر. ليس هذا احتفاءً بالحركة الخضراء، بل إمعان فى قتلها والتقليل من تأثيرها المعنوى. فاللون الذى كان محرَّما قبل أربعة أعوام وكان الشباب يخفونه فى جوارب أحذيتهم أو داخل حقائبهم بعد إعلان فوز أحمدى نجاد وبدء تصفية الحركة الخضراء ورموزها فى يونيو 2009، بات اليوم هو اللون الرسمى للمدينة. الرسالة واضحة من السلطات للشعب: الحركة الخضراء ماتت واللون لم يعد يخيفنا. حتى رسوم الجرافيتى وسط المدينة وعلى حوائط جامعة طهران التى رسم عليها شباب الإصلاحيين صور مير حسين موسوى باللون الأخضر، لم تزلها السلطات حتى اليوم، لكنها وضعت بصماتها عليها برسم علامة «إكس» فوق وجه موسوى وكلمة «منافق». عندما مر شباب إيرانيون أمام الجرافيتى أشاحوا بوجوههم إلى الناحية الأخرى. إنه وقت صعب عليهم. النظام الإيرانى يحرص بشدة على المظاهر، والانتخابات غدًا لكن الشارع «بارد» فى معظمه. برودة قد تضر بهذه المظاهر. لكن نظاما متمرسا مثل النظام الإيرانى، لن يعدم الوسائل لجذب الإيرانيين للتصويت، ومن بينها إجراء الانتخابات المحلية غدا أيضا متزامنة مع الرئاسية لضمان مشاركة الموظفين الحكوميين، وتجديد المرشد الأعلى لإيران آية الله على خامنئى حديثه عن «الملحمة الانتخابية» لمواجهة مؤامرات الغرب، وتحذير آية الله مصباح يزدى من أن عدم التصويت أمر «ضد الإسلام»، ووعود المرشحين بحل أزمات البلاد. لكن ومع أن الإيرانيين «كائنات سياسية»، إلا أن الحماسة للانتخابات فاترة بشكل ملحوظ، خصوصا فى المدن الكبيرة. ففى بلد يكاد يبلغ تعداد سكانه ثمانين مليون نسمة، 70% منهم أقل من سن 30، لم تعد توجد خطوط اتصال قوية بين النظام والكثير من مواطنيه. الهوة التى تفصل بين النظام الذى ما زال يعتمد على الصحف والتليفزيون الرسمى، والشباب الإيرانى الذى يستقى كل معرفته وأفكاره من الإنترنت والفيسبوك، باتت مؤشرا خطرا. أحد هؤلاء الشباب يلخص أسباب قراره بعدم التصويت: «النظام يحكم ب10% من أصوات الشعب. الطبقة الوسطى فى إيران محاصرة اليوم بين الطبقة الريفية التى تعيش على برامج الإعانة والتوظيف الحكومى، وبين الطبقة العليا التى هى أساسا جزء من النظام». الطبقة الوسطى فعلا محاصرة اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وثقافيا، ففى شمال طهران توجد مساكن تنافس فى فخامتها أغلى مدن العالم، وفى جنوب العاصمة أغلبية تعيش عند حد الفقر. محمود أحمدى نجاد طوال ثمانية أعوام لم يحسن أداء الاقتصاد الإيرانى بأى مقياس، لكنه دفع بالملايين من الدولارات كمساعدات نقدية للفقراء. والفقراء يحبونه لهذا. فبعيدا عن طهران، وفى ريف إيران الشاسع هناك ملايين استفادوا من توزيع الأموال الحكومية عليهم فى بناء بيوتهم أو شراء معدات حديثة للزراعة، هؤلاء ولاؤهم كبير للنظام، وهم يشكلون العمود الفقرى الاجتماعى له بميولهم الاجتماعية والسياسية المحافظة. لكن قوة النظام لا تعتمد عليهم فقط، بل أيضا على عمود فقرى عسكرى، عقائدى تشكله قوات الباسيج التى باتت بحد ذاتها طبقة. فالمزايا والمخصصات الحكومية لقوات الباسيج ضعف المزايا والمخصصات لأى شريحة اجتماعية أخرى فى إيران، بدءًا من تعليم ورعاية صحية بالمجان، وتسهيل شروط الالتحاق بالجامعات، وإعطائهم الأولوية فى التوظيف الحكومى. واليوم واحد من بين كل سبعة إيرانيين فى قوات الباسيج، أى نحو 20% من الإيرانيين. غالبية هؤلاء يتم تجنيدهم من الريف الإيرانى. وبينما كان عدد قوات الباسيج عام 2004 نحو 10 ملايين شخص، فإن عددهم اليوم نحو 13.6 مليون شخص، بينهم نساء وطلبة مدارس دينية وغير دينية، تجمعهم مصالح عضوية وروابط عقائدية. هناك إحساس إذن بأنه حتى لو خرج الإصلاحيون للتصويت فإن أصواتهم لن تؤثر فى شىء. فالقوة التصويتية للمحافظين تحسم الانتخابات. شاب من مؤيدى الحركة الإصلاحية قال ضاحكا: «الثورة التى تبدأ فى شارع تجريش، تنتهى فى شارع فناك»، مشيرا إلى شارعين فى شمال طهران، حيث مركز الطبقة الوسطى. مع أنه يعود ويتذكر أن احتجاجات 2009 لم تكن «طبقية»، وأن سكان جنوبطهران شاركوا فيها بمئات الآلاف تماما مثل شمال العاصمة. ما كان حاسما فى مآلها أنها كانت احتجاجات مدن، لا ريف. لكن ليس الشباب فقط من لديهم شكوك وتحفظات. أمينى، وهو إيرانى فى الثمانينيات من العمر شارك فى الثورة 1979 وصوَّت فى كل انتخابات منذ حينها وحتى 2009، لن يصوت غدا، موضحا «الصراعات بين الإصلاحيين والمحافظين ليست جديدة فى إيران. لكن طريقة تعامل السلطات فى 2009 كشفت للمرة الأولى الشرخ الكبير فى حائط البيت الإيرانى. فمن هم مهمشون وتحت الإقامة الجبرية اليوم ليسوا، كما يردد النظام، عملاء للخارج، إنهم ركن أساسى من الثورة، رفسنجانى وكروبى وموسوى وخاتمى قاموا أيضا بهذه الثورة». يضع أمينى وزوجته ناهيد فى غرفة الاستقبال صورتين كبيرتين لمنظر الثورة الإسلامية فى إيران على شريعتى وزعيم الجبهة الوطنية الإيرانية، والأب الروحى للتيار الليبرالى الوطنى محمد مصدق، رئيس الوزراء المنتخب، بين أعوام 1951 و1953، الذى أمَّم صناعة النفط الإيرانية، قبل أن تقوم الاستخبارات الأمريكية بالإطاحة به فى انقلاب أعاد الشاه إلى الحكم. هذه مفارقة لا تخلو من معنى، فمصدق الذى كان الإيرانيون يحملون صوره إلى جانب صور الخمينى خلال الثورة وهم يرددون: «نصر من الله.. مردم شاه» أى «الموت للشاه»، اختفى كليا مع أنصاره الوطنيين الليبراليين بعد 35 عاما على الثورة. حتى «شارع بهلوى» الذى سمى ب«شارع محمد مصدق» بعد نجاح الثورة 1979، تم تغييره إلى «ولى عصر»، أى ولى الزمان أو الإمام الغائب. وفى رأى أمينى: «ما شاهدناه عام 2009 يشبه حرب الشوارع التى عشناها 1979 و1980. أولادى وأحفادى لن يصوتوا. أعرف أن جيلا كاملا فى العشرينيات والثلاثينيات من العمر اليوم لن يكلف نفسه عناء المشاركة. لكن أعرف أيضا أن كثيرين سيصوتون. نحن فى حالة استقطاب حادة.. ليس هناك حتى مرشح إصلاحى». هذه حقيقة أخرى كاشفة للوضع فى إيران اليوم. فبعد أربعة أعوام من الحصار والقمع والتهديد، هرب مئات المفكرين والمثقفين والناشطين الإيرانيين للخارج، ومن بقى خفض سقف خطابه الإصلاحى لدرجة أن «الإصلاحيين هم المحافظون الجدد» حسب تعبير شاب إيرانى لا يعرف لمن سيصوت حتى الآن. وإذا كانت حروب شوارع قد نشبت قبل 35 عاما، كما قال إبراهيم يزدى وزير الخارجية الإيرانى فى حكومة مهدى بازوكان رئيس وزراء أول حكومة بعد الثورة بسبب «أن كل القوى كانت متفقة على هدف التخلص من الشاه، لكنها كانت مختلفة على كل شىء بعد ذلك.. من نوع الدولة إلى الدستور إلى القوانين الحاكمة»، فإن نفس القوى ما زالت تتصارع اليوم وعلى نفس القضايا تقريبا، مع تغيير جوهرى هو أن أحدها وهو التيار المحافظ فرض سيطرة شبه مطلقة على الفضاء السياسى والأمنى والاقتصادى والثقافى وهمش الإصلاحيين لدرجة أن الإصلاحيين أنفسهم «ينعون» حركتهم على الأقل فى الوقت الراهن. وفى مدينة مثل طهران غالبية شوارعها أسماء شهداء، مثل شارع «الشهيد قرنى» (أحد قادة ساباه باسداران خلال الحرب الإيرانية، العراقية)، وشارع «الشهيد همت» (أحد أبرز قادة الحرب مع العراق)، وشارع «الشهيد مفتح» (رمز العلاقة بين الجامعة والحوزة العلمية فى قم والثورة)، وشارع «الشهيد مطهرى» (أحد تلاميذ آية الله الخمينى وأحد منظِّرى الثورة)، وشارع «الشهيد طالقانى» (أحد أبرز منظرى الثورة الإيرانية) وشارع «الشهيد الملا الصدر» (موسى الصدر). وشارع «هفتى تير» (الذى سمى لإحياء ذكرى مقتل آية الله بهشتى، تلميذ الخمينى وصديقه، فى 28 يونيو 1981)، فى مدينة تعلق صور الشهداء وأسماءهم ك«شهادة» على شرعية للنظام، لا بد وأن تبرز ضراوة المعركة مع من يريدون مصادر أخرى للشرعية. وفى طهران اليوم شارع واحد يمكنه أن يلخص هذا الصراع. إنه «شارع باستور»، قلب مؤسسة الحكم فى إيران الذى يضم مكتب ومنزل آية الله خامنئى ومقر رئاسة الجمهورية والمؤسسة القضائية ومؤسسات حكومية أخرى. فعلى بُعد أمتار من مقر خامنئى المحاصر بقوات نخبة من الحرس الثورى، يقع منزل زعيم الحركة الخضراء مير حسين موسوى، المحاصر أيضا بقوات الأمن على مدار الساعة منذ 2011. فإذا كان خامنئى يتحرك فى أضيق الحدود، فإن موسوى قيد الإقامة الجبرية مع زوجته فى منزل نوافذه مغلقة، سحبت منه كل وسائل الاتصال، ومنعت الصحف، ووضعت أجهزة تنصت وكاميرات مراقبة فى كل مكان. وعندما شعرت زوجة موسوى يوما بالاختناق، مد موسوى يده وكسر زجاج النافذة بيده العارية، ثم استدعى طبيبا لعلاجه. أما أبواب المنزل فقد نزعت أقفالها فى رسالة مفادها أن «منزلك جزء من شارع المرشد». فى مفارقة قاتمة مثل هذه، يحاول النظام أن يحشد الأصوات كى لا يبدو شكله سيئا. لكن لمن يصوت الإيرانيون؟ فإيران بلا أحزاب سياسية حقيقية. توجد جبهات وائتلافات عريضة من إصلاحيين ومحافظين ومعتدلين، لكن لا يوجد حزب سياسى بالمعنى المعروف. أمام الإيرانيون غدًا أربعة مرشحين، ومن البديهى القول إن الأربعة يستطيع المرشد أن يتعامل معهم بارتياح وإن بدرجات متفاوتة. ومع أن المرشد لم يقل لمن سيصوت، إلا أن المنطقى والرائج أنه شخصيا أميل إلى على أكبر ولايتى، وزير الخارجية القوى بين 1981 و1997. إنه المرشح المثالى لخامنئى، فهو كما يصفه البعض «متشرب بولاية الفقيه. مثل صخرة تمر ولاية الفقيه من بين ثناياها الدقيقة». إنه يعرف المرشد منذ أكثر من 30 عاما، يعمل معه فى مكتبه وضمن حلقته الضيقة منذ 20 عاما. وإذا كان هناك 10 أشخاص فى إيران لديهم القدرة على معرفة كل شىء يتعلق بخامنئى، فولايتى بينهم. هو مرشح عقلانى براجماتى لديه خبرة دولية كبيرة ومعروف ومقرب من الحرس الثورى. عمدة طهران محمد باقر قليباف لديه أيضا كل المميزات التى يمكن أن تطمئن المرشد، من بينها أنه من الحرس الثورى ومخلص فى ولائه لولاية الفقيه. براجماتى لديه خبرة تنفيذية، وإن كان يفتقر إلى الخبرة الدولية. لديه شعبية كبيرة فى طهران التى يشغل منصب عمدتها منذ عام 2005. وطهران قلب الحدث، فهى حقيقة مصدر الشرعية بسكانها ال9 ملايين. فعندما خرج غالبية سكانها احتجاجا على نتائج الانتخابات 2009 خسر النظام جانبا من سمعته لم يستعده حتى اليوم. لا يمكن التقليل من أهمية تصويت سكان طهران، إذا قرروا التصويت، وتأثير ذلك على الانتخابات. الخبرة الدولية التى يفتقر إليها قالبياف لا يفتقر إليها سعيد جليلى، فهو مسؤول الملف النووى الإيرانى. وعمل فى وزارة الخارجية لفترة طويلة. وعلى الرغم من أن مناظراته الرئاسية لم تكن ملهمة، والكثيرون اعتبروا أنه خرج خاسرا، إلا أن حظوظه ليست ضعيفة، فالمرشد يعرفه جيدا ويعرف ولاءه المطلق لولاية الفقيه، ويعتقد أنه يمكن الاستفادة من حقيقة أنه وجه معروف لدى الغرب. وإذا كان القبول الشعبى معيارا للاختيار، فإن حسن روحانى لا يفتقر إلى هذا المعيار. فبعد المناظرة الثانية خرج الآلاف فى أصفهان يرددون اسمه. روحانى المرشح المثالى لصورة الجمهورية الإسلامية فى الخارج. فهو معروف ومحترم دوليا منذ كان مسؤولا عن الملف النووى الإيرانى خلال حكم محمد خاتمى. وهو أكثر الوجوه قبولا فى الحوزة العلمية فى قم، ليس لأنه فقط رجل دين، بل لأنه قريب من تيار سياسى، دينى إصلاحى، فى قم ما زال مؤثرا رغم الضربات. وهو مقرب من المرشد أو على الأقل كان حتى عام 2009. وبحكم عمله كرئيس للمركز الإيرانى للدراسات الاستراتيجية، الذى يتبع المرشد مباشرة، منذ 1992 ملم بكل الملفات الأمنية والاستخباراتية والسياسية الحساسة، داخليا وخارجيا. لكن الأهم من كل هذا أنه «همزة الوصل» ربما الأخيرة بين الإصلاحيين والمحافظين فى إيران. ففى أزمة 2009 لم ينتقد روحانى المرشد علانية على غرار 90% من قادة وسياسيى الحركة الإصلاحية، بل انتقد المؤسسة الأمنية وتصرفات الشرطة ودافع عن حق الإيرانيين فى التظاهر. لم يهمشه المرشد بعد هذه الانتقادات. لكن خلال أيام سيعرف إن كان المرشد غفر له هذا أم لا. فى مشهد انتخابى أزيح منه الإصلاحيون، ووسط سيناريو مكتوب بالفعل، على المرشحين والناخبين أداء أدوارهم رغم كل شىء. فهناك أزمة شرعية فى إيران حتى إذا لم تخرج مظاهرات كل يوم. السؤال هو: هل تخفف هذه الانتخابات من أزمة الشرعية أم تعمقها؟