فى العاشرة من العمر، أقطع شوارع الإسماعيلية متخطيًا الممر لأدخل إلى شارع السلطان حسين، يدى تقبض على عشرة قروش بشدّة، مكافأة لى على نجاحى من جدّتى، أرى شارع السلطان هادئًا فى ذلك الوقت من الليل، كانت السماء صافية وكأنها تحتفل بنجاحى هى الأخرى، خطواتى بطيئة مستمتعة، أمرّ أمام قسم أول وأشاهد العسكرى الذى يقف أمامه شاكى السلاح فى وضع تأهب لا أفهمه، أتّخذ طريقى إلى نادى الزهرة، منذ أسبوعين أخذنى صديق إلى هذا النادى، وعرفت وقتها أنه لكى أتفرج على فيلم فيديو يجب أن أمنح الرجل الذى يشغل الفيلم خمسة قروش، يومها راح صديقى يتابع الفيلم من كرسى حجزه بقروشه الخمسة، بينما رحت أراقبه من بعيد متمنيًا أن أجلس مثله، شاهد صديقى نصف الفيلم، وتحرك باتجاهى أعطانى التذكرة، لأشاهد النصف الثانى من الفيلم، لكنى رفضت بقوة غير مفهومة لى وقتها، وانتظرته خارج نادى الزهرة، حتى ينتهى من مشاهدة الفيلم، اليوم أمسك القروش العشرة بيدى خوفًا أن تفر بعيدًا، أدرك أن هذه القروش القليلة تمثّل لى ثلاث ساعات من المتعة عبر فيلمين يعرضهما جهاز فيديو النادى، أدخل النادى منتشيًا بالفرح، أتّجه بخطوات مسرعة إلى مكان قاعة الفيديو، أعطى الرجل القروش العشرة ويعطينى التذكرة، لمشاهدة الفيلمين اللذين سيعرضهما، أشعر بسعادة غير طبيعية وأنا أجلس فاردًا ظهرى على الكرسى أمام شاشة التلفاز، بينما انتظر الرجل قليلًا حتى وجد أن الكراسى الشاغرة قد امتلأت بالبشر، يبدأ الفيلم، تنسكب روحى عبر المشاهد المتسارعة، أشاهد البطل «بروس لى» وهو يضرب عصابة من اللصوص، أحرّك يدى وقدمى بصورة تشبه البطل وأنا جالس فى مكانى، وكأننى أتشارك معه فى نفس المعركة، يدى الآن خاوية، لكن قلبى مشغول للغاية، وعيناى تبرقان بلمعة الفرح، وكأنه الانتصار، مرّ وقت الفيلم الأول وأنا فى غاية الانتشاء، كانت قبضة يد «بروس لى» شديدة على أعدائه، وكان قلبى يرقص بين ضلوعى فى فرحة الانتصار، انتظر الرجل عشر دقائق متمنّعًا قبل أن يعرض الفيلم الثانى، ويأخذ من الجالسين طلباتهم من شرب كشاى وكولا وما شابه، وعندما مرّ بجوارى وضعت عينىّ على شاشة التليفزيون السوداء حينها ولم أرمش، وظللتُ جالسًا كتمثال شمعى، مرّ الرجل بسلام، وعاد مرة أخرى للفيديو ودفع بشريط جديد، بدأت عيناى تعودان لوضعهما الطبيعى وتحدقان فى الشاشة التى تلوّنت لتنقل مشاهد جديدة، كان بطل الفيلم هذه المرة هو «جاكى شان» لم أره فى قوة «بروس لى»، لكنه ممتع، وهناك عصابة أخرى تطارده أيضًا، بينما عينا الرجل صاحب الفيديو ترمقانى من حين لآخر وتبتعدان لتهبطا على وجه شخص آخر.. وأحمد الله أنه لم يطالبنى بفلوس جديدة، أنغمس بكل كيانى مع الفيلم وأتعاطف مع البطل بشدة وأتمنى فوزه، فجأة يقف الرجل مشغل الفيديو ويضغط على زر فتتوقف الصورة، ويمر علينا، مَن يريد أن يكمل الفيلم عليه أن يطلب طلبًا جديدًا أو يدفع خمسة قروش أخرى، قلت له إن كل ما معى قد أخذه وإن القروش العشرة تكفى الفيلمين، لكنه رفض وقال لا بد من مشروب مع الفيلمين وإلّا يكفى لهذا الحد، ويجب أن أترك كرسى لآخر.. وقفتُ متثاقلًا.. وخرجت، بينما سمعت صوت الفيلم من جديد وهو يعيد تشغيله، كم أحزننى أننى لم أشاهد الفيلم لنهايته، لكننى رحت أصبّر نفسى، يكفى أننى شاهدت «بروس لى» كاملًا، لكن البطل الجديد الذى شاهدته أضحكنى كثيرًا، حفظت ذاكرتى منتصف الفيلم الذى شاهدته، ووعدت نفسى أننى سأكمله فى وقت آخر مهما حدث، الذى لم أفهمه أن النادى يغيّر الفيلم كل يومين، وأننى سأظل لفترة طويلة أحلم أن أشوف النهاية التى لم أرها، لكن الأيام تمضى بسرعة الزمن المعتادة، أذهب إلى نادى الزهرة بعدها مرات قليلة وكل مرة أرى الفيلم المعروض ليس فيلمى الذى أحلم به، فأغادر قبل أن يتم تدبيسى فى فلوس.. تركض الأيام بسرعة الصاروخ تسحب خلفها عمرًا يجرى، وتكبر الأحلام، وأمر من أمام نادى الزهرة فى جولاتى الشبابية متذكرًا الجزء الذى شاهدته فى السابق من الفيلم الذى بحثت عنه كثيرًا فى أندية الفيديو عندما كبرت، وأصبح الفيديو فى بيتى كأى شىء آخر جديد، كان الرجل أيضًا قد كبر وأصابته الشيخوخة وظل أمام الباب يحيى الداخلين، بينما توقف النادى منذ زمن عن عرض أفلام الفيديو، كنت أخجل أن أقترب من الرجل، لأسأله عن حدث مر عليه فوق السنوات العشر، لكن الأيام تعود لتفاجئنى فيختفى الرجل ليموت قبل أن أساله.. الآن وأنا أمر أمام نادى الزهرة الذى اختفى من الوجود نهائيًّا بمسرحه وقاعة أفراحه ليحل مكانه سوبرماركت ضخم بأبواب إلكترونية يحمل اسم مترو، يثور خيالى، محاولًا أن أتذكر اسم الفيلم دون جدوى..