بهدوء وبتركيز شديدين يواصل الكاتب والروائى المبدع منتصر القفاش بناء مشروعه الأدبى على مهل وبتأن بالغ لا تحركه كما يبدو دائمًا من كتاباته إلا غريزة الكتابة والمزيد من الرغبة فى اكتشاف النفس والعالم غير عابئ بصخب إبداعى كاذب فى كثير من الأحيان يسود المشهد ويصم الآذان يحدثه كتّاب عابرون معظمهم لم يخرج من طور المراهقة الأدبية بعد. منتصر قدم للمشهد الأدبى مؤخرا مجموعته القصصية «فى مستوى النظر»، التى صدرت طبعتها الأولى مؤخرا عن دار التنوير، وقد لفت نظرى من البداية العنوان وأجبرنى على استدعاء عنوان روايته الصادرة 2002 بعنوان (أن ترى الآن) حيث بدا لافتا أن منتصر مشغول ومهموم بفكرة أو مسألة (الرؤية) بشكل كبير، والرؤية هنا بالطبع مفتوحة فى تأويلاتها على المعانى كافة، المباشرة وغير المباشرة، القريبة والبعيدة والأكثر وضوحا أن الكاتب يرتكز غالبا على المعنى المباشر والقريب وهو النظر، ليصل بعد ذلك إلى وجهة النظر وينطلق من النظر بالعين إلى النظر بالقلب والروح، وهو لا يترك القارئ نهب التأويل السطحى لمفهوم النظر بل يساعده طوال الوقت بمهارة عالية على النظر إلى الأبعد ويشجعه على محاولة الوصول إلى ما هو أعمق عبر طرف الخيط الذى يلقيه إليه باستمرار بطول المجموعة. وفى تلك المجموعة يكتب القفاش عن الدور الأرضى فى بيت من مكون عدة أدوار يسكنه مجموعة من الجيران ويقدمه كبطل أو كواجهة يصنع خلفها حكاياته، وهو المقصود مباشرة فى العنوان بأنه «فى مستوى النظر»، وهو العنوان الذى يمثل بدوره وفى حد ذاته طرف خيط، فكلنا يعلم كيف يكون الدور الأرضى دائمًا، خصوصا فى الأحياء الشعبية والمتوسطة مستباحًا هو ومن بداخله لجميع المارة فى الخارج، حيث الشوارع والحارات ضيقة والبيوت متلاصقة ومتقاربة والبلكونات والشبابيك متواجهة ومتقابلة، لكنه يطرح فى المقابل كيف يصبح الشارع بمن فيه أيضا مستباحًا طوال الوقت لمن يسكن هذا الدور ليصبح أيضا «فى مستوى نظرهم»، ومن هنا يتحول الدور الأرضى إلى زاوية الرؤية الأساسية التى قرر القفاش أن يرى منها العالم فى تلك المجموعة، مرة من الداخل، ومرة من الخارج، ومن ثم يعيد اكتشافه وتأويله، والعالم هنا ظاهريًّا يبدو محدودا أبطاله مجموعة من الجيران مختلفى الأعمار والميول من سكان الأدوار المختلفة، بدءًا من الدور الأرضى إلى الأعلى، فالأعلى تحكمهم علاقات العشرة والجيرة بما تنطوى عليه تلك العلاقات من تفاصيل الشد والجذب والحب والكره والزعل والخصام لكنه فى المقابل مجرد بوابة صغيرة إلى عوالم أخرى. تمكنك كتابات منتصر دائمًا من النظر إلى العالم بتمهل، فالقلم فى يده يتحول إلى ريموت كنترول يثبت اللقطات المهمة ويعيد تشغيلها ببطء، ليكشف عن تفاصيل مشتركة بينك وبين الكاتب بل هى فى الغالب تفاصيل عشناها جميعا فى مرحلة ما من حياتنا، وربما نعيشها الآن وهى التفاصيل التى نخزنها فى أذهاننا وذاكرتنا دون اسم مثلها مثل الكراكيب، التى تلقى بلا ترتيب وبلا اهتمام فى غرفة مظلمة قلما نمنحها شيئا من وقتنا، تلك التفاصيل يلتقطها هو بعناية وينفض عنها الغبار ويعيد تأملها بهدوء شديد ومن ثم يمنحك كقارئ فرصة أخرى لإعادة اكتشاف معان جديدة لها، فكلنا مثلا لعبنا أطفالًا فى الشارع، وأزعجنا جيراننا العجائز بأصواتنا العالية، خصوصا سكان الأدوار الأرضية كما يحكى القفاش فى أولى قصص المجموعة ص7 بعنوان «اللعب» لا سيما أصحاب المعاشات منهم الذين فرغوا من شواغل الدنيا وصاروا يبحثون عن كيفية قضاء أيامهم الأخيرة فى هدوء، حيث يكتب متحدثًا عن عم محمود العجوز الذى يسكن الدور الأرضى فى جملة عابرة يعيدنا فيها إلى الخلف سنوات لنتأمل ما عجزنا وقته أطفالًا عن فهمه وتأمله «كأننا صرنا جزءًا من انشغالاته بعد خروجه إلى المعاش كما صار هو جزءًا من لعبنا»، وهكذا بطول المجموعة يجبرك الكاتب دائما على الرجوع إلى تفاصيلك التى مرت ربما منذ سنوات طويلة وطرحتها بعيدا من دون أن تهتم، لتعيد النظر إليها من جديد وفق مستوى نظر القفاش، بعد أن أجبرك على أن تقف لتراها من جديد، لكن من زاويته الخاصة جدا. بل إن منتصر تجاوز ذلك مع نهايات المجموعة وطرح تماهيًّا بين الشقق، وهى مجرد حوائط وجدران من طوب وأسمنت وبين سكانها من البشر جعله يتجاوز تأمل علاقات البشر إلى علاقات الجدران نفسها ببعضها حتى إنه نفخ الروح فى تلك الحوائط والجدران وساوى بينها وبين سكانها ومنحها الحق هى أيضا أن تتزاور وتتبادل أماكنها كما يفعل سكانها. يكتب ص123 فى قصة بعنوان «لا أحد يرى»، ولاحظ هنا دلالة العنوان على انشغال الكاتب بفكرة الرؤية التى تحدثنا عنها حتى فى صياغاته للعناوين «يحكى أن شقق هذا البيت تتبادل مواقعها.. ولا أحد يعرف كيف تفعل هذا»، ويكتب أيضا «وربما كشفت لهم الشقق ما كانت تفعله منذ سنوات وحدثتهم كل شقة عن ذكرياتها فى بقية الشقق».