خدعوك فقالوا إن الرأسمالية نظام استغلالى! والحقيقة هى أن الرأسمالية عند ظهورها كانت أكبر قوة تحررية عرفها الإنسان فى تاريخه! حررت الإنسان من عبوديته -الحقيقية لا المجازية- للإقطاع، وحطمت العلاقات التقليدية الصارمة التى كانت تحكم على الفرد بأن يظل أسيرًا لطبقته ووضعه العائلى دون حراك من الميلاد إلى الممات. مهّدت الأرض للقضاء على التمييز بين الناس على أساس العرق والطبقة والنوع واللون. لم يعد هناك تمييز إلا على أساس الجهد والموهبة والكفاءة الشخصية والمساهمة فى الإنتاج، سواء المادى أو المعرفى، وما يقابل هذه المساهمة من دخل. خدعوك فقالوا إن الرأسمالية حوّلت عبودية الإنسان من عبودية للإقطاع إلى عبودية للرأسمالى أو الرأسمال! والحقيقة هى أن الفرد العامل فى شركة ليس عبدًا لصاحب الشركة! العلاقة بينهم هى علاقة تعاقد حر. يستطيع الموظف فى نظام اقتصاد حر إيجاد بدائل أخرى يعمل بها، ويعلم صاحب الشركة ذلك. وكما أن هناك سوقًا لعرض قوة العمل، فإن هناك سوقًا مناظرة لعرض الشركات وفرص العمل أمام الباحثين عن عمل. أضف إلى هذا أن صاحب الشركة لا يدير شركته فى رأسمالية هذه الأيام. تديرها إدارات متخصصة. ومعظم الشركات حاليًا غير مملوكة لشخص واحد بل تتوزع ملكيتها على أسهم قد يملك العاملون بها بعضها. وأخيرًا -إن أصررنا على حديث العبودية- فالعبودية ليست لصاحب الشركة ولا للإدارة. العبودية للدخل المادى الناتج عن الوظيفة. إذن هى عبودية للمال! وبما أن المال فى حد ذاته ليس سوى تعبير عن السلع والخدمات والاحتياجات التى يستطيع توفيرها، فالإنسان إذن -إن شئت- عبدٌ لاحتياجاته ورغباته وأحلامه وطموحاته! وهذا لا يمكن تغييره إلا لو غيّرنا البرمجة الجينية للكائنات الحية! خدعوك فقالوا إن علاقة الرأسمالية بالديمقراطية، والحرية، والعلمانية، والمساواة، والعدالة الاجتماعية، هى علاقة فى أفضل الأحوال سلبية أو لا توجد على الإطلاق! والحقيقة أن الصحيح هو أنه لا توجد علاقة «مباشرة» بين الرأسمالية والاقتصاد الحر وبين القيم السياسية والاجتماعية التى تسعى إليها الشعوب. ولكن الصحيح أيضًا أنه يستحيل لهذه القيم أن تتحقق وتترسخ دون وجود نظام رأسمالى يسود علاقات الاقتصاد فى المجتمع. لن أطلب منك أن تنظر للتاريخ وتخبرنى هل تجد حالة واحدة لنظام يجمع بين الديمقراطية والحرية مع نظام غير الاقتصاد الحر. سأطلب بعض التفكير العقلانى فقط: الرأسمالية تنتج طبقة وسطى كبيرة. لا تفعل ذلك لأسباب خيرية. هى كنظام عقلانى قائم على تحقيق المصلحة، يهمها أمرين: قوة عمل متعلمة ذكية نشيطة تستطيع المنافسة وتحقيق التفوق، وسوق استهلاكية كبيرة ذات قوة شرائية متزايدة، بحيث لا يقع الاقتصاد فى حالة ركود. النتائج الاجتماعية تكون نقل الملايين من دائرة الفقر إلى الطبقات الوسطى. تقليل الفقر وإعادة تعريفه. تدعيم التعليم الحديث. فبقدر فتح المنافسة مع العالم يكون الاحتياج إلى التعليم العصرى لا غنى عنه. دمج الاقتصاد مع العالم يوفّر ظروفًا مواتية لنقل ثقافة هذا العالم وقيمه إليك. بمرور الوقت، يتحوّل الفرد الذى هو فى مصر ليس أكثر من جزء من جماعة أكبر منه (العائلة، القبيلة، الطائفة، الأمة) إلى مواطن متحقق الذات متمتع بالفردانية الكاملة. يكون -الذكر المسلم السنى- أكثر استعدادًا لتقبل أفكار مثل المواطنة، المساواة مع الأقليات، المساواة مع المرأة، حرية الاختيار للجميع، الديمقراطية، الاهتمام بشأنه الخاص وليس الوصاية على مخاليق ربنا. الرأسمالية لا تنتج هذه القيم مباشرة. هى تمهّد الطريق الذى بدونه لن يمكن انتشار هذه القيم فى المجتمع. تخيّل الديمقراطية والمساواة والحرية سيارة تسير على طريق وعر غير مستوى. ستفشل كل محاولات السير والوصول للهدف. ستنقلب السيارة مرة، وتصطدم بهضاب وتلال رملية مرات أخرى، وفى كل مرة سنعيد بناء السيارة بتكاليف بشرية ومادية ومعنوية ضخمة. الاقتصاد الحر يمهّد هذا الطريق. يجعله مستويًا صالحًا للسير فوقه دون عقبات كؤود كالتى نواجهها الآن فى تأسيس الدولة الديمقراطية الحديثة. ولكنه -انتبه- لا يصنع السيارة. يحتاج صنعها إلى عمل شاق موازٍ. أما البدائل الأخرى للاقتصاد الحر، فنحن نرى انعكاساتها السياسية والاجتماعية والثقافية بأعيننا: سلطوية، شمولية، تعذيب، احتقار للمواطن، اضطهاد للأقليات والضعفاء، فقر، فساد، تسييس للدين، تواكل، طموح محدود، تخلف علمى ومعرفى، نشوة بالانتصارات اللفظية فقط، براعة فى الكلام والشعر وفشل فى العمل، أبوية ذكورية، تصور غير علمى وغير واقعى وغير حقيقى للعالم، وهذه أشياء على سبيل المثال لا الحصر! خدعوك فقالوا أشياء أخرى كثيرة، أستكملها فى المقال المقبل إن شاء الله!