عندما سألتنى زميلة صحفية عن أهم شخصيات عام 2012 قلت إنه «جيكا» عصفور الثورة. وحين سألتنى عن أهم رواية قلت بملء الفم «بيت النار» للروائى الكبير محمود الوردانى. وليس أدق من «بيت النار» وصفا لحالة مصر فى قلقها واضطرابها وتقلبها بحثا عن طريق الآن، لأنها تضع أمام أعيننا «تاريخ» اللحظة الحاضرة، كل ذلك الشقاء الطويل الممتد، وقد تجسد أمامنا فى شخصيات وأحداث وآمال تصارع من أجل عالم آخر. أولى القضايا التى تطرحها «بيت النار»، التساؤل: ما أدب الثورة؟ أليس هو ذلك الأدب الذى ظهر قبل 25 يناير وواجه النظام البائد على مدى ثلاثين عاما، وعرى الواقع الاجتماعى والسياسى؟ الأدب الذى غرس فى النفوس أن الثورة طريق الخلاص وشحن الفكر والشعور بضرورتها وطرح بصدق العذابات الروحية والضياع والأمل. إلى أدب الثورة تنتسب بحق رواية «بيت النار» التى تجىء بعد أكثر من مجموعة قصصية قدمها الكاتب الكبير من بينها «السير فى الحديقة ليلا» 1984، و«النجوم العالية» 1985، و«فى الظل والشمس» 1995، غير عدد من الروايات الجميلة منها «نوبة رجوع» 1990، و«رائحة البرتقال» 1992، و«طعم الحريق» 1998. وقد ترجم بعض من تلك الأعمال إلى الإنجليزية والفرنسية كما فاز بعضها بجوائز أدبية مرموقة. يقول الوردانى فى حوار معه «لا أتذكر أننى عشت طفولة حقيقية، فقد اضطررت إلى العمل فى طفولتى عدة أعمال مثل بائع ثلج وعامل مطبعة وغير ذلك». وعندما تقرأ أيا من أعمال الوردانى الأدبية ستخطر لك العبارة التى حدد بها كافكا الكتابة قائلا إنها «فتح لجرح ما»، ففى كل ما كتبه الوردانى يتردد بخفوت السؤال «لماذا يتحتم على الناس أن يعيشوا فى ظل الحرمان والفظاظة والعوز والقبح؟». هذا السؤال، والإشفاق على ضياع حياة الآخرين وشقائها هو موضوع رواية «بيت النار». ومع أن الرواية تغطى مساحة زمنية تمتد من 1962 حتى انتفاضة يناير 1977 إلا أنها ترقى بما تطرحه من قضايا لتجسيد هموم المثقف والمجتمع المصرى وفئاته المطحونة قبل ذلك التاريخ وبعده. يتناول الوردانى فى روايته على لسان الراوى الصغير مصطفى تاريخ أسرة صغيرة توفى عائلها، فوجدت نفسها فى مهب الريح مرغمة على السكن فى حجرة داخل شقة، وعلى اللهاث وراء أوراق المعاش من أجل ثلاثة جنيهات. الأم «قمر» هى عماد الأسرة المكونة منها ومن ولديها مصطفى ومنى، أسرة من الشريحة الدنيا من الطبقة الوسطى تتأرجح على خيط دقيق بين العدم والستر. ولطالما حفل الأدب المصرى بنموذج الأم التى تقدم حياتها قربانا لحياة أبنائها، لكننى لم أحب نموذجا من كل أولئك بقدر ما أحببت «قمر» الوردانى، ليس فقط لأننى رأيت فى صور كفاحها اليومى صورا من حياة أمى وكل أم مصرية، لكن لأن صراعها المرير مع الواقع لم يسلبها حنانها ولا قدرتها على إثارة الفرح والبهجة فى نفوس أطفالها بمسرات صغيرة. تجبر وفاة الوالد الصبى الراوى على العمل -وقد تجاوز العاشرة بقليل- فى نقل ألواح الثلج إلى المقاهى ومحلات البقالة وفى مطبعة بأرض شريف، وفى محل عصير قصب أمام قهوة المالية فى لاظوغلى، وفى أعمال أخرى متفرقة تقودنا للعبارة الشهيرة «لم يكن فى طفولتى طفولة»، حتى إن الولد حين يلقى القبض عليه مع الباعة السرّيحة -لمجرد أنه ركب الترام دون بطاقة- ويضعونه فى حجز قسم الأزبكية فإنه ينتهز فرصة اقتراب عسكرى منه فيرفع أصبعه بمنتهى الأدب كأنه فى المدرسة «لو سمحت أنا عايز حمام»! فيرد العسكرى «اعملها على نفسك يا روح أمك». يقول «ربنا يخليك ياعم.. عايز حمام». ثم يضعونه بعد ذلك فى حجز النساء مع أمثاله من الصغار. هناك يغشى عليه ويفيق على صوت امرأة تسنده وتسقيه من كوز بيدها صائحة فى الأخريات «ياللا يا مرة أنت وهى.. عايزين هوا.. الواد بيفرفر». هذا المشهد من مشاهد شقاء الطفولة من أجمل ما قرأت فى الأدب العربى. ينمو ذلك الصبى الراوى أمام أعيننا مثل حنظلة ويكبر فى قلب الحاجة والصبر والأمل. يكمل تعليمه بصعوبة بالغة. وحين يقف على قدميه يقرر أن يواجه العالم بالاحتجاج، وبالحب، وبالمزيد من العمل الشاق، وبالانضواء تحت راية حزب سياسى. ومع ذلك فالرواية ليست عملا جهما يتناول الواقع من زاوية واحدة هى قسوته وخشونته، وليست دفتر أحزان مرير بقدر ما هى دفتر مقاومة ذلك الواقع بالأمل والحب الغامر الذى يشد به أفراد الأسرة الصغيرة بعضهم بعضا للنجاة من الغرق. تمكن الكاتب الكبير محمود الوردانى من تقديم جوهرة، موجزة، مضغوطة، حية، تفاصيلها مرسومة بدقة بالغة، بروح من الأسى والتفاؤل العذب. وجعلنا نرى مصر فى «بيت النار»، وجعلنا نتساءل معه «إلى متى يتحتم على الناس أن يعيشوا فى ظل الحرمان والفظاظة والعوز والقبح؟». تحية إلى الكاتب ولروايته التى تبقى ضمن أجمل ما سطره الأدب المصرى.