فى تلك اللحظة البعيدة، بدت لى أشعة شمس ظهيرة فبراير الناعمة وهى تداعب برقة مفرطة عيناى وصفحة وجهى المنهك المشتاق إلى النور وكأنها تقصدنى شخصيا بكل هذا الحنو لعلها تمسح عن روحى كآبة ثقيلة راكمها زمن بطىء لزج ومسحوق المعالم أمضيته فى عمق ظلام سجن القلعة، وتحديدا فى الزنزانة رقم «21» التى لفظتنى من جوفها قبل أقل من ساعتين، تنفيذا لقرار كانت نيابة أمن الدولة العليا قد أصدرته منذ 11 يوما يقضى بعرضى على مصلحة الطب الشرعى وعلاجى من شج فى رأسى أصابنى، بينما كانت فرقة عرمرم من المباحث تختطفنى بالقوة المسلحة (سبق أن كتبت الحكاية) من أمام بوابة جامعة القاهرة فى اليوم نفسه الذى فتحت فيه الجامعات أبوابها بعدما تعطلت أسبوعين بسبب أحداث انتفاضة الشعب يومى 18 و19 يناير 1977.. لكن الجرح ظل ينزف حتى تعب الدم وتجلط فَالْتَأم الشج وانغلق وحده وكيفما اتفق موفرا على الموازنة العامة للدولة كلفة عمل ثلاث أو أربع غرز جراحية فى رأس العبد لله. كنت مشغولا مبتهجا بالشمس وأبادلها الابتسام فلم أهتم ولم أحفل كثيرا بحلقات التلاميذ الصغار الذين تركوا للتو دكك الفصول لأقرانهم تلاميذ صفوف فترة ما بعد الظهر واستوقفهم منظرى الشاحب الهزيل وأنا واقف على رصيف محطة مترو باب اللوق (لم يكن للمترو أنفاق بعد) مخفورا بين ثلة من أمناء الشرطة يقودها ضابط بينما القيد الحديدى الجديد اللامع (أمريكى الصنع) ظاهر ويزين معصمى ويشدنى بإصرار وقسوة إلى يد أحد أمناء الشرطة عضو قوة الترحيل المرافقة لى.. ظلت حلقات الصغار تتفاقم وتتسع من حولى، بينما ضاعت سدى كل الجهود المخلصة التى بذلها الضابط والأمناء لإبعادهم وإخافتهم وردع فضولهم الطفولى العابث، بل لقد زادت شقاوتهم وتطور نزقهم وانتقل بسرعة من الثرثرة والجهر بتعليقات بايخة من نوع «الحرامى أهه»، إلى محاولات لا تكاد تتوقف ثانية واحدة للتسلل من بين سيقان أفراد قوة الحراسة للإمساك بى وشدى من ملابسى المبهدلة التى فقدت كل هندام.. فلما فاض الكيل وطفح بأمين الشرطة المربوط معى بالقيد الحديدى الأمريكى طفق يهتف فى قائده الضابط معاتبا: يا باشا والله مكانش المفروض سيادتك توافق أن سيد يمشى بالعربية (عربة الترحيلات) ويسيبنا فى المصلحة.. الولد (الذى هو أنا) ح يتبهدل معانا لغاية لما نوصله سجن طرة.. رد الضابط بضيق ونفاد صبر معجونين بحرج ظاهر قائلا: وكنت ح أعمله إيه (يقصد سيد السائق) ما انت عارف ولاد (الكذا) فى الإدارة مكلفينه بمأمورية تانية.. بقولك إيه.. فك الكلابش من إيده وخلاص.. قالها الضابط الشاب وهو ينظر لى بإشفاق، بينما الأمين المقيد معى يفك القيد بحماس ودون أن يكف عن رفس الصغار برجليه ذات اليمين وذات اليسار لإبعادهم عنى، غير أن الوضع بقى صاخبا على حاله دقائق طالت حتى سمعنا المترو الذى ننتظره يعربد ويزمجر من بعيد، وما إن استقر على رصيف المحطة وبدأ جمعنا المثير يتحرك بصعوبة نحو باب إحدى عرباته حتى أطلق حشد الصغار عاصفة هوجاء من الهرج والمرج وأخذوا يهتفون بحماس: «الحرامى أهه.. الحرامى أهه».. عندها انفجر غضب الأمين المتعاطف معى وشق حنجرته وهو يزعق فيهم: حرامى إيه يا ولاد ال(كذا).. ده طالب جامعة محترم بيعمل مظاهرات عشانكم وعشان أهاليكم الجعانين يا غجر.. نجحت زعقة أمين الشرطة فى كبح جماح العاصفة وإسكات الصغار، كما أفسح الكبار بعدها المجال أمامنا لنعبر بسلام بوابة عربة المترو، وما زلت أتذكر أننى ميزت لحظتها بين الهمهمات المشفقة التى طوقتنى وأنا أتحرك بين حراسى الطيبين صوت سيدة فى عمر أمى لم تستطع كبت لوعتها، وراحت تواسينى هاتفة بصدق وبصوت ينضح رقة وحنانا: ربنا معاك يا ابنى ويفك عنك إنت واللى زيك ويصبر أمهاتكم.. منهم لله المفترين ولاد الحرام. ملحوظة: هذه السطور مهداة إلى أحمد دومة وحسن مصطفى وكل أسرانا النبلاء سجناء الشرف والضمير. (نحو ثلاثة آلاف زهرة من أجمل زهور الوطن محشورون الآن فى سجون مرسى وجماعته السرية، بينما المجرمون القتلة وخاطفو جنودنا أحرار طلقاء)!