يمثل شبه جزيرة سيناء معضلة حقيقية لمصر، فمن ناحية هى منطقة حيوية استراتيجيا وزاخرة بالثروات، ومن ناحية ثانية كانت على الدوام المنطقة الرخوة من وجهة نظر الأمن القومى المصرى، وكانت بوابة غزو مصر واحتلالها على مدار التاريخ. وكان الوضع فى سيناء على الدوام عاكسا لحال مصر، ففى زمن قوة مصر وعنفوانها كان الحاكم يفرض سيطرته الكاملة على سيناء، يهتمّ بها ويعمل على تطويرها ويؤمِّن الامتداد الاستراتيجى لها، فقد كان أجدادنا الفراعنة زمن الدولة القوية يقومون برحلتين، واحدة فى أول الصيف والثانية فى أول الشتاء، لتقزيم قدرات القوى الناشئة هناك، فقد كان الفراعنة يرون أن وجود دولة قوية إلى الشمال من سيناء يمثل خطرا على الأمن القومى المصرى، وأن هذه القوة فى حال تصاعدها سوف تتطلع جنوبا وتغزو مصر. لذلك حرص الفراعنة الأقوياء على القيام برحلتَى الصيف والشتاء لتمشيط هذه المنطقة والقضاء على أى قوة بازغة، وفى مرحلة تالية ومع تصاعد قوة مصر كانت الدولة المصرية تقوم بغزو منطقة الشام وتخضعها لسيطرتها وتولى حكامًا تابعين لها، وكانت تحصل على ضرائب سنوية من هذه المناطق لقاء حماية مصر لها. كان هذا زمن الفراعنة الأقوياء، وعندما وهنت الإمبراطورية المصرية كانت سيناء بوابة احتلال مصر، فقد دخل منها كل غازٍ طامع فى السيطرة على مصر واحتلالها. ما نقوله هنا هو أن سيناء مرآة عاكسة لحال الدولة المصرية، السيطرة على سيناء وتأمينها وإخضاع من عليها وتحصينها فى مواجهة أطماع دول الجوار يعنى أن الدولة المصرية عفية وقوية، خروج سيناء عن السيطرة المصرية أو تعرضها للغزو الخارجى كان ولا يزال مؤشرا على وهن وضعف مصر. وإذا نظرنا اليوم إلى الوضع فى سيناء فسوف نجده مأساويًّا، فمن ناحية هناك جيتوهات صغيرة فى جنوبسيناء يتم الاهتمام بها وتأمينها لاعتبارات سياحية مباشرة، باقى سيناء مُهمَل، حالة من العداء الشديد بين أهل سيناء ومؤسسات الدولة المصرية، لا سيما الأمنية، وتحديدا الشرطة. ومع سقوط نظام مبارك وتولِّى المجلس العسكرى بدأت سيناء وتحديدا الشطر الشمالى منها يتحول إلى ملاذ آمن للجماعات الإرهابية، ففى صفقة مجلس طنطاوى وعنان مع جماعة الإخوان تم السماح بدخول ثلاثة آلاف ممن كانوا يحملون السلاح فى باكستان وأفغانستان والشيشان، دخلوا إلى البلاد وبعضهم توجه إلى شمال سيناء ونسج روابط مع نظرائه فى قطاع غزة الخاضع لسيطرة حركة حماس. ومع تولى الدكتور مرسى رئاسة البلاد فتح المجال بالكامل للجهاديين لدخول مصر، وتدريجيا بدؤوا فى السيطرة الكاملة على شمال سيناء على النحو الذى انعكس فى هجمات هذه الجماعات على أقسام الشرطة ومواقع قوات الجيش وصولا إلى جريمة رفح التى قتل فيها ستة عشر جنديا مصريا فى أغسطس الماضى، وهى الجريمة التى استغلها مرسى للإطاحة بالمشير والفريق، وأصدر أوامره بوقف حملة الجيش «نسر» على معاقل الإرهابيين فى شمال سيناء وتحديدًا فى منطقة جبل الحلال. وقد أدى ذلك إلى تمكين الجماعات الإرهابية من فرض سيطرتها الكاملة على المنطقة إلى الدرجة التى جعلتها تقوم بخطف سبعة جنود تابعين للجيش والشرطة، وهو أمر قد يحدث فى أى مكان فى العالم لا سيما فى الدول التى توجد فيها جماعات متشددة أيا كان سبب التشدد، لكن الجديد فى الأمر لدينا فى مصر هو قبول الدولة المصرية بدخول مفاوضات مع خاطفى الجنود، ومطالبة الخاطفين بالإفراج عن متهمين محكومين بأحكام قضائية، ويلاحَظ أيضًا أن مؤسسة الرئاسة تتمسك بإجراء مفاوضات مع الجماعات الإرهابية الخاطفة وتؤجل القرار باستخدام القوة لتحرير الجنود المختطفين. مؤسسة الرئاسة فى مصر تصدر بيانا تؤكد فيه حرصها على حياة المختطَفين والخاطفين، وهو أمر جديد بالنسبة إلينا، فالمفترض أن الدولة تحرص على حياة مواطنيها لا حياة الإرهابيين، كما أن الدولة يُفترض أن تنتفض بشدة فى مواجهة كل من يرفع السلاح فى وجهها، الدولة القوية لا تتفاوض مع الخارجين على القانون، الدولة القوية لا تترك جنودها من أفراد الشرطة والجيش أسرى بيد جماعات مسلحة على أراضيها. المؤكد أنه ما لم يبادر الجيش المصرى باستعادة جنوده وأفراد الشرطة ويبدأ فى فرض سيطرته على شمال سيناء بالكامل بصرف النظر عن قيود معاهدة السلام، فنحن نتحدث عن قضية أمن قومى مصرى وعن صورة مصر كدولة، ما لم يحدث ذلك فسوف تفقد الدولة المصرية سيطرتها على المزيد من أراضيها، ويقوم كل من له طلب شرعى أو غير شرعى بأخذ رجال الدولة المصرية رهائن لديه ويبدأ فى مفاوضة الدولة، وعندها لن تكون لدينا دولة بالمعنى المتعارَف عليه للدول المركزية القوية، بل تبدأ مصر حقبة جديدة من حقب الانحطاط التاريخى، وهو ما تعيشه مصر اليوم.