كنت أسير في أحد محطات المترو بالعاصمة البريطانية لندن مع صديق قد وصل منذ ساعات قليلة، سألني بتلقائية: "هو محدش عندهم بيكسر حاجة في المحطة زي عندنا ليه؟" بالطبع رجحت ذلك لوجود كاميرات مراقبة لكل سنتيمتر من العاصمة، مما يجعل الوصول لأي مخرب وإيقافه أمر سهلا، بالإضافة لوجود مساحة للشباب والصغار لممارسة كل أنواع الأنشطة لتفريغ الطاقة أغلبها مجانا، على عكس شبابنا وأطفالنا الذين لا يجدون أي متنفس. بدت إجابتي على السؤال منطقية لكلينا، لكني حفظت السؤال داخل عقلي بجوار آلاف الأسئلة المشابهة التي أطرحها على نفسي كل يوم، بداية من "لماذا لا نسطيع أن نقف في طابور؟" ونهاية إلى "لماذا لا يتم تداول السلطة في بلادنا دون أن تذهب السلطة لفريق أسوء؟" .. تلك الأسئلة التي لا تنتهي عن سر تردي حالنا على مر الزمان، والتي أحاول – ككثيرين – أن أجد إجابة سهلة لها يلخص لنا سر النجاح، وتختصر علينا سنين من التجارب المكررة التي نادرا ما ينتج عنها شيئا حسنا. كنت بدأت أن أظن إن الوصول إلى كلمة سر أو إجابة تصلح لكل تلك الأسئلة هو أمر مستحيل، وإن عليّ أن أتخلص من تلك الأفكار المراهقة حتى استطيع التفكير في حلول أكثر عملية بعيدا عن الأفكار الحالمة، إلا أن القدر شاء أن يجبرني أحد أصدقائي على مشاهدة فيديو لشخص اسمه "سايمون سينك"، وهو متحدث عام أو كما يقول الخواجات Public speaker، له عدة كتب تدور حول القيادة والإدارة وبيئة العمل، وشارك بمقالات لأشهر وأهم الصحف في الولاياتالمتحدةالأمريكية. كانت مدة الفيديو ساعة إلا ربع تقريبا، وبالطبع باللغة الإنجليزية مما يعني حاجة للتركيز والمجهود الذهني لم أكن أريد أن أبذله في ذلك الوقت، لكن عند نهايته كنت أشعر بسعادة غامرة، لإني لم أخرج فقط بعديد من المعلومات الهامة عن طريقة تفكير البشر، ولكني خرجت أيضا بالفكرة أو الشيء الذي يستطيع أن يصنع الفارق، بالنظرية التي تستطيع أن تجيب على تلك الأسئلة المخزنة بعقلي. باختصار، تحدث سايمون سينك عن ميل الكائنات إلى تأمين أنفسها من خلال التكتل، لتصنع تجمعات تبدأ بقطيع ثدييات، وتنتهي بالعائلات والقبائل والأعراق والشعوب عند البشر. كل من أعضاء تلك الكيانات يحتاج إلى الانتماء لها لكي يشعر بالأمان حتى وإن لم يدرك ذلك، فالبحث عن الأمان أو التخلص من الخوف هو أولى الاحتياجات الإنسانية الأساسية، ويأتي قبل الطعام والتأمين المأوى والملبس. ولكل كيان يتجمع من خلاله البشر دائرة تخيلية يدافع الكيان عنها، دائرة قد تتسع لكل أفراد الكيان وربما حلفائهم أو اهتمامتهم أيضا، وقد تقتصر تلك الدائرة مجموعة معينة أو محدودة من الأشخاص في سيناريوهات أخرى. والنظرية تدعي أن مدى اتساع دائرة أمان هو العنصر الأهم والأقوى تأثيرا على أداء تلك الكيانات وأعضائها. شرح سايمون الفكرة مستخدما الشركات الخاصة كمثال، فعندما تتعامل مع شركة تقدم خدمة سيئة للغاية – حتى لو كانت شركة كبيرة تقدر قيمتها بالمليارات- ستجد أن الموظف المسؤول عن الخدمة السيئة يحاول دائما تجنب شيء ما، إما أنفاق الأموال، أو الاعتذار، أو التحدث باسم الشركة، أو تبديل المنتج، أو التواصل مع مرؤوسيه..إلخ. يحاول أن يتجنب ذلك الشيء أو الخطوة التي قد تحل المشكلة أو تصحح الوضع لإنه يخاف أن يتسبب ذلك في تأثير سلبي على وضعه في العمل، لإنه بمنتهى الاختصار لا يشعر بالأمان، لا يشعر أنه جزء من الشركة ستدافع عنه إن وقع في الخطأ. على الناحية الأخرى، أنظر إلى الشركات الأكثر نجاحا مثل جوجل على سبيل المثال، تستطيع أن تلمس تلك الثقة وحالة الفخر التي تشع من العاملين في تلك الشركات إذا تعاملت مع أحدهم، ليس لأنهم يعملون في بيئة عمل صحية أو يتقاضون أجور جيدة فقط، ولكن لأنهم يشعرون أنهم جزء من ذلك الكيان، وإن الكيان سيفعل ما بوسعه لحمايتهم مهما كان الوضع. إنه هذا الشعور الذي يمرره رأس المنظومة لأصغر عضو بها ليحدد مصير ذلك الكيان وأدائه. إن ما نتحدث عنه حقيقة لا خلاف عليها، عندما تشعر بالانتماء والأمان تستطيع أن تؤدي بكفاءة قد تدهشك انت شخصيا، تسطيع أن تفكر خارج الصندوق، أن تتقدم باقتراح لمشكلة لا تمسك فقط لأنك تريد أن تجعل ذلك الكيان أفضل. لكن حين تشعر أنك خارج تلك الدائرة، تكرس جهدك لحماية شخصك انت، لتتأكد أن ظهرك أمن، حينها تفقد ليس القدرة على الإبداع فقط، ولكن حتى القدرة على الإنتاج. قارن بين المواطن الغربي، كيف يشعر أن له حقوق، إنه محمي وآمن، حتى وإن كان شعور زائفا وليس حقيقيا، وقارنه بالمواطن المصري الذي يعيش دائما في حالة من الخوف والقلق المبالغ فيها في بعض الأحيان، ستعرف لماذا يحاول المصري دائما أن يكون "فهلوي". ببساطة يحاول المواطن أن يحمي مؤخرته هو، ولا يكترث للكيان أو المنظومة لأنه لا يشعر أنها تحميه أو تخدمه. هو في الأساس لا يريد أن يدفع أو يتقاضى رشوة، ولا يريد أن يعطل أوراقك، لكنه لا يرى سببا وجيها ليقبل أوراق عليها ختم النسر غير واضح مما قد يعرضه للمسائلة لو أراد رئيسه ذلك، لأنك لن تسطيع أن تحميه من ذلك. لإن الدولة لدينا تحمي الدولة فقط، ولا تمتد لتحمي المواطنين أيضا، لذلك يسعى كل فرد أن يحمي نفسه، أو أن يجد لنفسه مكانا أمن تحت مظلة الدولة. إن ذلك الشعور هو ما يصعب مكافحة الفساد عندنا، ويصعب من مسائلة المخطأ والمقصر، ولهذا السبب لا تعتذر حكوماتنا ولا تعترف أي جهة بمسؤوليتها، لإن كل مسؤول فيها يحمي الأخر الذي ينتمي له، ولا يفكر في تعريض نفسه للخطر – حتى وإن كان من صنع خياله – من أجل من لا يعرفهم. ولهذا السبب أيضا نتعامل مع السياسية بطريقة كرة القدم، نشجع ونبرر ونفحم الطرف الأخر، دون أن يكون للمنطق أو العقل مساحة في اختيارتنا أو ناقشتنا، فكل منا يدافع فقط عن الفريق الذي يشبهه، الذي قد يتحرك إن تعرض لسوء، بينما لا يعنيه الأخرين، لا يعنيه قتلاهم ولا ضحايهم ولا إن منهم من ضحى بروحه من أجله. خلاصة القول إن أردت الإجابة عن أي سؤال خاص بحالنا أرجعه لهذه النظرية وستجد أن الأمر منطقي جدا، وإن أرد أن تصنع فرق حقيقي في هذا البلد فعليك بأن تقنع الدولة – من رأسها لأصغر موظف فيها – بأن يجعلوا دائرة الحماية تسع لقطاعات أكبر من الشعب.