«تُربي»: أقل مدفن جديد ب 70 ألف جنيه وأسعار المقابر لا تناسب سوى الأغنياء.. وهناك من ليس أمامه سوى مقابر الصدقة تحقيق -ميادة سويدان: في حادث طريق، أو في مستشفى حكومي، أو في سجن، يفاجئهم القدر ليلقوا حتفهم دون أن يتعرف أحد على هويتهم، فأوراق الهوية الشخصية إما ضاعت أو تفتت أو لم تكن معهم من الأساس، وبالتالي لن يستطيع أحد أن يتصل بأهلهم، وربما ليس لهم أقارب ولا معارفن لكنهم في نهاية الأمر "مجهولي الهوية". من ليس لديه مقبره له ولعائلته، أو من ليس له أهل في الأساس، في الغالب يذهب به المحيطون إلى أقرب مقابر صدقة يعرفونها لدفنه، أو ربما يتطوع أحد الجيران من فاعلي الخير لدفنه في مقبرته، ولكن هؤلاء الذين يموتون في مستشفى حكومي أو سجن أو رفض أهله استلامه، لا مكان لدفنهم سوى المقابر الميري، أو مقابر المجهولين، التابعة للدولة. "التحرير" زارت مقابر مجهولي الهوية "المقابر الميري"، و تعرفت على قصص مجهولى الموتى، وكذلك مقابر الصدقة وحققت في بزنس المقابر وكيف أصبحت للأغنياء فقط. المقابر الميري خلف بوابة حديدية ضخمة، على جانبها لافتة مكتوب عليها مقابر مستشفيات جامعة القاهرة، بالقرب من مشرحة زينهم، وفي مقابل محكمة جنوبالقاهرة، تقع "المقابر الميري"، كما يطلق عليها التُربية في تلك المنطقة، المقابر الوحيدة على مستوى الجهورية المخصصة لدفن مجهولي الهوية. "مجهولي الهوية بس"، هذا كان رد فوقية، التُرابية، المسؤلة عن دفن وحراسة تلك المقابر، على سؤالنا الخاص بنوعية من يدفن في هذه المقابر، مفسرة أن هذه المقابر التي أطلق عليها بين أصحاب هذه المهنة ب"المقابر الميري" لأنها تتبع الدولة، هي الوحيدة على مستوى الجمهورية المخصصة لدفن مجهولي الهوية، وهم من ماتوا في حادث ولم يستدل على أهله، أو في السجن ورفض أهله استلامه أو ليس له أهل، أو في جريمة وأيضًا لم يُستدل على أهله. فوقية أضافت أن أعداد الموتى "مجهولي الهوية" كبيرة جدًا، قائلة: "فيه أوقات ممكن أدفن 30 جثه في اليوم الواحد"، وذلك بسبب كثرة الحوادث على الطرقات وكذلك المتواجدين في المستشفيات الحكومية من الفقراء من ليس لهم أهل ولا معارف "جم وراحوا للدنيا ومحدش معاهم". وعن إجراءات دفن مجهولي الهوية، قالت: إن لديها دفتر تسجل فيه المتوفيين ولكن بشكل مختلف عن تصريح الدفن العادي الذي يحوي اسم المتوفي، حيث يٌكتب نوع الميت (رجل أم امرأة)، ومواصفاته لون البشرة والعمر بالتقريب وكذلك الطول وأي شيء مميز، و يُكتب أيضًا سبب وتوقيت وفاته، كل تلك المعلومات هامة حتى تمكن أي شخص ربما يأتي يسأل عن أحد أو يستدل عليه فيما بعد. وتابعت: "ساعات بيجي ناس تسألني عن حد ادفن هنا، وساعات بيكون فعلًا جه ودفنته وبعرفه وبقوله عليه"، ولكن لا يستطيع أن يأخذ رفاته إلا بعد الحصول على تصريح بذلك من وزارة الداخلية، "يطلع التصريح ويجي ياخد الميت بتاعه". وضربت بذلك مثل لرجل سبعيني جاء بمواصفات ولده الشاب لها، حيث كان شاب لا يتعدى ال25 عامًا، ولم تستطيع نسيانه فقد جاء ليس به أي إصابات تقريبًا "كأنه مات على سريره"، وليس في حادث مرور كما جاء، وتعرفت عليه وبعد الحصول على تصريح أخذ رفات ولده، تلك القصة التى لا تستطيع نسيانها بسبب تأثر ذلك الرجل على ولده التي عرفت بعد ذلك أنه كأن ابنه الوحيد. توارث المهنة والمرارة قصص الموتى المجهولين ليست فقط مصدر الدهشة في تلك الزيارة، ولكن وجود سيدة لا تتعدى الثلاثين عامًا في هذا الموقع، كانت مصدرًا آخر أكثر دهشة، لتكن فوقية "سيدة المقابر الميري" المسؤلة عن دفن كل الموتى مجهولي الهوية في مصر. وهي تعمل وتعيش في المقابر، فلم تعرف مكاناً آخر لها من اللحظة التي جاءت لها الدنيا، فهي البنت الكبرى لأب ظل يعمل حارسًا ل"المقابر الميري" لمدة تجاوزت ال 20 عامًا حتى توفي، لتجد فوقية نفسها مسؤلة عن 6 أخوة هي أكبرهم، ولا ترث شيئاً سوى تلك المهنة، "هو فيه حد يحب يعيش في المقابر، و كان نفسي أكون حاجة تانية، بس أخواتي ملهومش غيري ومكنتش عاوزاهم يتبهدلوا"، هكذا قالت فوقية عن شعورها تجاه عملها، مضيفة أنها تعلمت دفن الموتى من والدها، وكان عمرها لا يتجاوز 11عامًا عندما نزلت مع أبيها لأول مرة مقبرة، "أول مرة ادفن كان عندي 11 سنة خفت في الأول بس بعد كدا اتعودت خلاص". كل ما تخشاه فوقية هو الإصابة بالسرطان بسبب العيش بجانب الموتى، حيث تؤكد أن والدها مات بهذا المرض بعد أن أكد لهم الطبيب أن السبب هو رائحة الموتى التي يشمونها، "أبويا مات لأنه جاله المرض الوحش من ريحة الميتين، وهو دا اللي أنا خايفة منه". ولكن في النهاية تؤكد فوقية أنها ستقضي هي الأخرى عمرها بجانب الموتى المجهولين، تأخذ من قصصهم عبر في حياتها فهي لا تعرف مكانًا للعيش ولا مهنة أخرى: "عمري كله عايشة هنا مع الميتين وبقالي أكثر من 19 سنة في الشغلانة دي، وهعيش وأموت هنا زي أبويا". مقابر الصدقة لم تعد كما كنا نسمع لمجهولي الهوية من عابري السبيل أو من ليس له أهل ،أو أصحاب الفقر المدقع، الذين لم يمثلوا في السابق سوى عدد محدود، وحالات فردية، وذلك طبقًا لما أكده أيمن عابدين، الذي تربى بمقابر زين العابدين بالسيدة زينب، وورث المهنة عن والده ويعمل بها وهو في عمر الخامسة عشر عاماً. وأشار أنه في الماضي كانت أي منطقة مقابر يوجد بها عدد من المقابر الصدقة التي يبنيها بعض الأهالي وذلك لدفن الفقراء أو من ليس له أهل ولا يوجد مقبرة تابعه له يمكن أن يدفن بها، وكان هذا لا يحدث إلا نادرًا، فحتى العائلات الفقيرة كانت تستطيع شراء مقابر، ولم يكن ذلك أمر مكلف بالنسبة لهم، ولكن الآن زادت مقابر الصدقة في كل مكان، وأصبحت لها أشكال عديدة وذلك بسبب ارتفاع ثمن وتكاليف شراء وبناء المقابر، الأمر الذي أعاق كثيرون من شراء مقار. وعن أشكال مقابر الصدقة، قال ايمن إن هناك مقابر صدقة تابعة للجمعيات الخيرية تبنيها بالمناطق الجديدة كالسادس من أكتوبر، حيث تشتري هذه الجمعيات أراضي بالمقابر وتقوم ببناء مدافن عليها، وتجعلها فقط للمحتاجين، وهناك أيضًا مقابر صدقة تابعة للمساجد الكبيرة في بعض الأماكن، كما يوجد مقابر صدقة تابعة لأشخاص حيث يقوم شخص بشراء وبنا مقبرة ويوهبها للفقراء والمحتاجين، أو يقوم شخص آخر بتحصيص مكان في مقبرته صدقة لدفن الفقراء والمحتاجين. وأضاف: "كتر الأنواع دي سببه ارتفاع سعر المقابر معه كثرة الأشخاص غير القادرين على امتلاكها، مما دفع الجمعيات الخيرية والأشخاص القادرين عمل هذه المقابر كجزء من أعمال الخير الخاصة بهم. بزنس المقابر لافتات في الشوارع، وإعلانات على شاشات التلفاز، جميعها تعلن عن إمكانية توفير مقابر بأسعار مناسبة، ومع فرصة تقسيط سعرها أيضًا، وهناك عروض بأسعار مناسبة لتشطيبها، كل ذلك يعلن أن أمر شراء مقبرة لم يعد أمرًا بسيطًا كما يعلن أن الأمر أصبح "بزنس". وعلى أحد الهواتف المحمولة المتروكة على أحد إعلانات بيع وتقسيط المقابر، اتصلنا بشركة نور الإسلام، وقال لنا خالد أحد موظفي التسويق بهذه الشركة، إن المقابر التي تبيعها الشركة موقعها خلف مدينة السلام، وأنها توفر مساحات مختلفة للمقابر، أصغرها مقبرة تبلغ مساحتها 28 مترًا فقط، يبلغ سعرها 45 ألف جنيه كاش، و50 ألف بالتقسيط، حيث يتم دفع نصف الثمن مقدم وهو 25 ألف جنيه، وباقي المبلغ يتم تقسيطه على مدار عام فقط. وأشار إلى أن هذه الأسعار لا يوجد مثيل لها في أي مكان آخر، وأن المقبرة هذه لها باب وحوش وفيها خصوصية، موضحًا أن هناك "عيون" تباع فردية وبسعر أقل ولكنها توجد في العراء لا جدران لها ولا باب وتوجد بجانب بعضها البعض، ويبلغ سعر "العين" بها 35 ألف جنيه كاش و40 ألف بالتقسيط. خالد أكد أيضًا خلال الاتصال على ارتفاع أسعار المقابر، وأنه كلما كانت المدن الجديدة ممتلئة بالسكان كلما ارتفعت أسعارها، معللاً بذلك سبب انخفاض أسعار المقابر بمدينة السلام، وذلك بسبب بعدها عن العاصمة حيث توجد على طريق مصر الإسماعلية الصحراوي، وليس بها عدد كبير من السكان حتى الآن، وسعر الأرض بها مازال منخفضًا بعض الشيء حتى الآن، موضحاً أن هذه الأسعار ستواصل الارتفاع في الفترات القادمة. "المناطق الجديدة بس اللي فيها بيع وشراء" هكذا قال لنا رضا عابدين مقاول مقابر بمنطقة 15مايو، إن المناطق القديمة التي يوجد بها المقابر من زمن بعيد لا يقدم أحد على بيع مقبرته أو مقبرة آبائه بها، وأن من يريد شراء مقبرة جديدة يلجأ إلى الذهاب للمناطق الجديدة، كالسادس من أكتوبر، والخامس عشر من مايو، والعبور وأيضاً التجمع الخامس التي بدأ بها بناء مقابر. لا يوجد بيع وشراء في المناطق الجديدة إلا بطريقتين الأولى عن طريق جهاز المدينة، والأخرى عن طريق المحافظة، فتقسيم هذه المناطق الجديدة قائم على أن كل مالك لوحدة سكنية بها، له الحق في الحصول على قطعة أرض بالمقابر الموجودة بها، يحصل عليها بأسعار يحددها جهاز المدينة، فأرض المقابر التي تتبع جهاز المدينة لا تباع إلا لأصحاب وحدات سكنية بها، ولكن ما يحدث هو أن بعض أصحاب الوحدات السكنية يشترون أرض مقبرة في هذه المدن، ثم يبيعونها بأسعار أعلى بعض الشيء، ويحدث ذلك لأن هؤلاء لديهم مقابرة من قبل، خاصة للقادمين من المحافظات فهم لديهم مقابرهم في مدنهم ولا يريدون هذه المقابر في شيء. وهناك جزء آخر من هذه المقابر يتبع المحافظة ومن يريد الحصول عليها يقدم طلب للمحافظة ثم تحدد من يحصل عليها، لذلك تعد المقابر الجديدة محدودة وكذلك عملية البيع والشراء بها. وبالنسبة لأسعار المقابر بمنطقة 15 مايو، قال رضا إن سعر الأرض بها يختلف على حسب المكان، فالمقبرة "الناصية" سعرها يختلف عن المقبرة الداخلية، حيث وصل سعر المقبرة 20 متر50 ألف جنيه وسعر 40 متر 70 ألف جنيه، وذلك قبل البناء، حيث يتكلف سعر بناء أقل مقبرة 15 ألف جنيه، و ذلك يختلف على حسب جودة "التشطيب"، فقد يتكلف سعر بناء المقبرة وتشطيبها 100 ألف جنيه، أما عن متوسط الأسعار فأقل وأصغر مقبرة كاملة التجهيز في منطقة 15 مايو 70 ألف جنيه. وفي منطقة السادس من أكتوبر توجهنا منطقة المقابر في هذه المدينة وبالتحديد في الوجه المقابل لمنطقة "أبراج عثمان"، وبها قابلنا الحاج عاطف حكومة، أحد أشهر مقاول بناء مقابر في تلك المنطقة، والذي أكد لنا على الطريقتين التي عرضهما رضا، موضحًا هو الآخر أن أي مقابر بالمناطق الجديدة لا تباع إلا لأصحاب وحدات سكنية بها، ومن هناك تأتي التجارة حيث يستغل أصحاب الوحدات السكنية عدم احتياجهم لتلك المقابرة ويقومون بشرائها من جهاز المدينة ثم يبيعونها بأسعار أعلى والفارق هو المكسب الخاص به. "مدينة السادس من أكتوبر أقدم المدن الجديدة حيث بدأ تخطيط منطقة المقابر بها منذ عام1991" طبقًا لما قاله الحاج عاطف، مضيفًا أن المقابر نوعان بها الأولى 40 مترًا ويصل سعرها في جهار مدينة السادس من أكتوبر 28 ألف جنيه، والثانية 60 مترًا ويبلغ سعرها 38 ألف جنيه في جهاز المدينة. أما عن الأسعار الأهلية، أي من مواطن لمواطن آخر فتزيد أكثر من 5 آلالف جنيه وهي أرض غير مبنية ولا يوجد بها مرافق، وأن أقل مقبرة جهازة في السادس من أكتوبر يبلغ سعرها 90 ألف جنيه. وأوضح أن الإقبال على شراء المقابر الجديدة ضعيف وذلك بسبب ارتفاع أسعارها، فتلك الأسعار ليست في مقدرة الجميع، كما أن هناك اتجاه لرفع أسعار المقابرة أكثر، وأن ذلك سيؤثر بشكل أكبر على الإقبال عليها، قائلاً: "الناس مش لاقيه تأكل ولا عارفة تجيب شقة، ودلوقتي مش هتعرف تجيب تربة تدفن فيها،". مقابر الأكابر مساحات واسعة تتعدى مساحة وحدة سكنية كبيرة، وبمناطق مميزة بمدينة نصر أو مصر الجديدة، وعلى أعلى طراز من التصميم، ربما تظن من الوهلة الأولى أنها مسكن كبير، وليست مقبرة، تلك هي مقابر الأثرياء أو الأكابر كما قال الحاج جمال عبد الرحمن مقاول بناء يعمل في مجال المقابر، "المقابر دلوقتي أغلى من المساكن"، هذا كان تعليق عبدالرحمن، على أسعار المقابر في الوقت الحالى. وأضاف أن المقابر أصبحت "بزنس"، وهو ما صعب على الفقير إمكانية امتلاك مقبرة، وربما الأمر يمتد للطبقات الأعلى، قائلًا :"حتى الناس اللي معاها قرشين، الدنيا بقت صعبة فبدل ما تجيب بيهم مدفن تجوز العيال أو تعمل بهم مصلحة، فامتلاك مدفن أصبح حلم بالنسبة إليهم". وأضاف: "مدينة نصر ومصر الجديدة والقطامية، يوجد بها أغلى المدافن، وذلك نظرًا لأرتفاع سعر الأرض، وكذلك لقلة مساحة أراضي المقابر بها، فأسعار المقابر بها تبدأ من 150 ألف جنيه، موضحًا أن الطبقة الاجتماعية بهذا المكان أيضًا تهتم بشكل المدفن، ومساحته بالإضافة إلى جودة الخامات المستخدمة في بنائه، فغالبًا يستخدمون رخام من أفضل الأنواع". "من سنتين عملت لواحد مدفن في مدينة نصر اتكلف 400 ألف جنيه، كانت مساحته 120 متر وعمله كله برخام عالي من بره وجوه"، هكذا وصف واقع المقابر. وتابع عبد الرحمن أن أرض المقابر التابعة للتجمع الخامس ستكون قريباً أغلى مقابر في مصر، لأن أصغر مقبرة بها ستكون 40 مترًا، و سيصل سعرها أرضًا فقط 70 ألف جنيه، لتكن فيما بعد مقابر التجمع الخامس أغلى مقابر في مصر، مثل مساكنها، حسب تعبيره.