"إن الإنسان يولد حرا، لكنه يكبل بالأغلال في كل مكان"، وقد فسر الفيلسوف جان جاك روسو (1712-1778) قوله هذا في العقد الاجتماعي عندما طرح سؤالا: كيف ينتقل الإنسان من الحرية التي ولد فيها إلي حالة العبودية التي تسيطر عليه ويخضع فيها لسلطان يستذله ويتحكم في مصيره؟ وعلي أي أساس حدث ذلك؟ وأجاب لا يمكن أن يكون القانون الطبيعي أساس الاستعباد، ذلك لأن الأسرة وهي أقدم مجتمع في العالم هي المجتمع الطبيعي بين صور المجتمعات البشرية. وفي هذا المجتمع الطبيعي لا يخصع الأولاد للأب والأم إلا إذا كانوا في حاجة إلى رعايتهما والمحافظة علي حياتهم، فإذا كبروا ولم يعودوا في حاجة إلي الأب والأم أصبحوا أحرارا مستقلين مثلهما إلا إذا استمروا خاضعين لهما عن طواعية وبشكل طبيعي. والأسرة ليست إلا النموذج الأول للمجتمع السياسي، فالسلطان يمثل الأب والشعب يمثل الأولاد، والكل لما كانوا أحرارا متساويين لا يمكن أن يتنازلوا عن حريتهم إلا لصالحهم وما يكون من شأنه أن يحافظ علي حياتهم وبقائهم، لأن القانون الطبيعي الأول للإنسان هو أن يسهر على المحافظة على نفسه وعلى بقائه. فالسلطان الذي يحكم الأفراد وفق مصلحته بعيدا عن مصالحهم، ليس لحكمه أي سند من القانون الطبيعي، بل إن حكمه ضد القانون علي خط مستقيم. وإذا لم يكن القانون هو الأساس ربما يكون قانون الأقوي هو الأساس في هذه الحال. ويشبه روسو الحاكم الذي يحكم بالقوة بصاحب عصابة يهاجم الناس ليغتصب منهم أمتعتهم، فكما أن القوة هنا لا تمنح حقا كذلك هي في المجال السياسي لا يمكن أن تكون أساسا لحقوق ونظم. ويري روسو أن طبيعة الإنسان تجعله لا يتنازل عن حريته إلا في مقابل ميزة أكبر ستعود عليه ولا يوجد شئ يعادل حرية الإنسان، وحتى السلام أو الأمن الداخلي الذي يقولون إن الحاكم الطاغية يوفره لرعاياه نظير تنازلهم عن حريتهم أمر لا وجود له، لأن جشع الحاكم وطمعه الذي لا يعرف حدودا، واعتداءاته على الأفراد هي بمثابة حروب تهدد أمنهم باستمرار. كما أن التنازل عن الحرية معناه التنازل عن صفة الإنسان، بل التنازل عن واجبات الإنسان نحو نفسه، فهو إذن ضد الطبيعة الانسانية، وبالتالي لا يكون لأي إنسان أو لأي شعب أن يتنازل عن حريته لأي شخص. ويقول إن أي حكومة لديها استعداد دائم للفساد وتغليب المصالح الخاصة لأفرادها على المصالح العامة، ومن ثم فالفساد محتمل باستمرار. وما دامت المصالح الخاصة قد غلبت على المصالح العامة فمعني هذا أن أساس الهيئة السياسية نفسه قد انهار وبالتالي تنهار الدولة. وعلي الشعب أن لا يترك للحكومة أي فرصة للفساد، فالحكومة مجرد هيئة مفوضة من الشعب للقيام بنوع خاص من الأعمال، وهي أعمال التنفيذ بينما يحتفظ الشعب بالتشريع. وأعضاء الحكومة ليسوا سادة الشعب، بل هم مجرد موظفين يعملون في خدمة الشعب. ولما كانت أساس الحكومة قانونا يصدر من الشعب فإن أية حكومة تكون مؤقتة ويستطيع الشعب أن يغيرها. هذا الكلام قال به جان جاك روسو في القرن الثامن عشر، وهو لم يكن يقصد أن يتحدث عن الحكم في بلادنا بالطبع، إنما كان يتحدث عن نظم الحكم في بلده فرنسا. وحين قال روسو هذا الكلام في كتاب «العقد الاجتماعي»، قررت السلطات الحاكمة القبض عليه بتهمة إثارة الخواطر ضد نظام الحكم والعادات المستقرة. فهرب من فرنسا إلى سويسرا، لكنه طرد من سويسرا أيضا وقضي بقية حياته متنقلا من بلد إلى بلد حتى توفي في 2 يوليو 1778 أي قبل قيام الثورة الفرنسية بإحدي عشرة سنة، ولم يعش ليرى الثورة التي كانت مؤلفاته من بين الكتابات الهامة، التي أدت إلي إشعالها. الغريب أن كلام روسو ما زال ينطبق علينا تماما، وكأننا نعيش في القرن الثامن عشر، وأي شخص يقول بمثل هذا الكلام، من السهل جدا القبض عليه، رغم أن روسو قال ذلك قبل الثورة الفرنسية، بينما من يقول ذلك عندنا، يقوله بعد ثورتين لكنه قد يجد المصير نفسه. فأي مفارقة هذه وأي شعوب نحن.. وهل كانت عندنا ثورات حقا؟ أشك.