إن الثقافة المصرية بالغة الغنى والثراء والتنوع، ومما يزيدها خصوبة قدرتها المتميزة على الانفتاح الإبداعى على ثقافات العالم بكل تنوعها التاريخى. وإذا كانت مصر شهدت توترات فى العصر الحديث، فإن هذا يجب ألا ينسينا أنها المنطقة التى توحّدت وامتزجت فيها الحضارات منذ بداية التاريخ. وقد أدرك مشروع الدستور هذا الحقيقة؛ فجاء متصالحاً مع التنوع الثقافى الذى تشكل فى مصر عبر التاريخ، ففى المادة (47): «تلتزم الدولة بالحفاظ على الهوية الثقافية المصرية بروافدها الحضارية المتنوعة»، وفى المادة (50): «تولى الدولة اهتماماً خاصاً بالحفاظ على مكونات التعددية الثقافية فى مصر». كما جاء متسامحاً مع الاختلاف العقائدى من خلال النص على «الحرية المطلقة للاعتقاد»، أما حرية ممارسة الشعائر الدينية وإقامة دور العبادة لأصحاب الأديان السماوية، فهى حق ينظمه القانون. فنحن لم ننضج بعد بالشكل الكافى -مثل الدول الديمقراطية العريقة- لنكون على مستوى الحرية التى يمنحها القرآن الكريم للأديان، والذى يسمح بفتح سقف حرية الشعائر الدينية وإقامة دور العبادة، ولو تم هذا فى ظل السياق الاجتماعى الثقافى الذى يسيطر على مصر المعاصرة لصارت فوضى تهدد السلم الاجتماعى وستفتح أبواباً للفتن لا عاصم منها. ففى إطار هذا الدستور نجد الإيمان بالحرية، لكنها ليست الحرية المطلقة، بل الحرية المسئولة، والحرية الشخصية فيه حق طبيعى، وللحياة الخاصة والمنازل حرمة، وحرية الفكر والرأى والإبداع الفنى والأدبى والصحافة مكفولة. ولا توقع عقوبة سالبة للحرية فى الجرائم التى تُرتكب بطريق النشر أو العلانية. علاوة على تأكيد حرية التفكير والبحث العلمى والابتكار، وما تطرحه من رهانات على المستقبل، سواء فى مواجهة مشكلات واحتياجات المواطنين، أو فى مجال الأبحاث الطبيعية والاجتماعية أو على مستوى المشروعات التنموية التى تصب فى مصلحة الاقتصاد ودولة الرفاه الاجتماعى. مع تأكيد أن حرية البحث وحدها لا تكفى، إذ لا بد من تخصيص موازنات مالية كافية، فدولة لا تكون الأولوية فيها للعلم لا مستقبل لها. ولذا نص الدستور على التزام الدولة برعاية الباحثين والمخترعين وحماية ابتكاراتهم والعمل على تطبيقها. والحريات التى يقدمها مشروع الدستور جاءت مؤسسة على مفهوم العقد الاجتماعى «SOCIAL CONTRACT»، وهو عقد بمقتضاه يتنازل كل فرد عن حريته للإرادة الكلية، ويصبح كل فرد جزءاً لا يتجزأ من الكل. وبموجب هذا العقد تصدر القوانين، والمتعاقدون تعاقدوا على أن يكونوا «كياناً واحداً» عند وضع القوانين من خلال ممثليهم فى البرلمان، وأن يطيعوها باعتبارهم مواطنين. وهذه القوانين هى التى تصون حرية المواطن، بل إن هذه القوانين هى مصدر الحرية. وبموجب العقد الاجتماعى تضع الإرادة الفردية ذاتها تحت الإرادة العامة، وليست هذه الإرادة العامة سلطة أو مؤسسة خارجية، وإنما هى «الضمير الداخلى» لكل مواطن فى المجتمع. وهنا تقع المسئولية على المواطن المصرى الذى يتحتم عليه أن يرقى بضميره حتى يجعله الرقيب عليه، وفى قلب هذا الضمير «الله» الذى منح الإنسان الحرية كأمانة ومسئولية. ولا بد أن يفهم المصريون أن جوهر الكيان السياسى هو «مركب» من الحرية والطاعة. فالحرية رغم أنها جوهر المواطنة فإنها ليست مطلقة، يقول جان جاك روسو ملهم الثورة الفرنسية: «لا تعتمد الحرية على أن يفعل الفرد ما يريد بإرادته الخاصة، بقدر ما تعتمد على ألا يخضع لإرادة شخص آخر، وهى تعتمد أكثر على عدم خضوع الآخرين لإرادتى الخاصة، ففى الحرية العامة ليس لأحد الحق فى أن يفعل ما تحرمه عليه حرية الآخرين، إن الحرية الحقيقية لا تدمر نفسها قط». وفى هذا نقد واضح ل«هوبز» فيلسوف الاستبداد الذى ذهب إلى أن الفرد ينقل حريته إلى فرد آخر (أو مجموعة أفراد)، وهنا يتحول إلى فرد من الرعية أو القطيع خاضع لحاكم، يكون صاحب السيادة، أى ذى سلطة مطلقة تشمل حق اتخاذ أى قرار مثل: حقّ وضع القوانين، وحقّ إعلان الحرب والسلام، وحقّ إقرار وسائل السلم والدفاع. وليست علاقة المواطنين -فى مشروع الدستور- مع بعضهم البعض «تراتبية» من أعلى إلى أسفل بين حاكم ومحكوم، بل هى علاقة أفقية بين الجميع. ويريد الدستور أن ينتقل -من خلال العقد الاجتماعى- من حالة الطبيعة (الفوضى) إلى حال المدنية (النظام)، ومن مفهوم الحق الطبيعى إلى مفهوم الحرية المدنية، حيث العدالة بين كل المواطنين. فالعقد الاجتماعى هو أساس شرعية النظام السياسى، وهو منشأ الحكومة بوصفها شرطاً لانتظام المجتمع. والدستور هو نص هذا العقد الذى يجب أن يعبر عن إرادة الشعب. ولذا اشتمل الدستور على أثمن ما فى مقدمة وثيقة إعلان استقلال الولاياتالمتحدة 1776، التى جاء فيها: «إن من الحقائق البديهية أن جميع الناس خلقوا متساوين، وقد وهبهم الله حقوقاً معينة لا تنزع منهم، ومن هذه الحقوق حقهم فى الحياة والحرية والسعى لبلوغ السعادة. والحكومات إنما تنشأ بين الناس لتحقيق هذه الحقوق فتستمد سلطانها من رضا المحكومين وموافقتهم. وكلما سارت أى حكومة من الحكومات هادمة لهذه الغايات، فمن حق الشعب أن يغيرها أو يلزمها، وأن ينشئ حكومة جديدة، ترسى أسس تلك المبادئ، وأن تنظم سلطاتها على الشكل الذى يبدو للشعب أنه أوفى من سواه لضمان أمنه وسعادته». ومن الواضح أن مشروع الدستور يستلهم أفكار العقد الاجتماعى فى جناحه الأكثر ديمقراطية الذى يعطى الشعب حق سحب الثقة من الحاكم، فى مقابل الجناح الآخر الذى يمثله «هوبز» الذى يعتبر العقد تنازلاً نهائياً للحاكم ويعطيه الحق فى الحكم دون الرجوع إليه. لكل هذا يسحب مشروع الدستور البساط من تحت أقدام دعاة الاستبداد الذين لا يؤمنون بالوطن ولا بالشعب؛ بل يتعبرونهما وسيلة لا غاية، ويؤمنون بالدين لكنهم يفهمونه غير فهم محمد صلى الله عليه وسلم، وأصحابه الكرام؛ فالدين عندهم ليس من أجل كل الناس، بل من أجلهم هم فقط؛ إنهم يؤمنون بالإسلام بينما يمارسون عقيدة شعب الله المختار؛ فالإله إلههم، وليس إله العالمين، وهم الوطن والشعب والتاريخ، بينما الآخرون هم كفار قريش لا شركاء الوطن!