بعد كلمات أو سطور قليلة قد يبدو لك مدهشا وغريبا استخدام العبد لله كلمة «حنين» لوصف واحد من دافعين اثنين (شرحت أحدهما أمس) حرَّضانى على الكتابة فى موضوع حريق مبنى «محكمة مصر» العتيد الذى يزين مع متحف الفن الإسلامى المواجه له، حى «باب الخلق» المتمدد على بعد أمتار من قلب القاهرة القديمة، فالمبنى والمحكمة كلاهما تعرفت إليه وبدأت نسج علاقتى به عندما كابدت أول تجربة سجن فى حياتى وأنا ما زلت شابا صغيرا لم يبلغ بعد عتبة العشرين!! لكن هذه التجربة المبكرة (على قسوتها) كانت من الثراء والتأثير الهائل فى مسار الحياة التى عشتها بعدها، بحيث أضحت ذكرياتها محفورة فى وجدانى لا سيما أنها خليط نادر من الحلو والمُر، بل إن كثيرا من حوادثها كان حلوا فى وقته، وبينما هو مزنر ومسيج بجدران السجن وقضبانه، وقبل أن يصير ذكريات تقفز فى براح الحرية إلى حكايات السمر والتسلية، مثل تلك الحكاية الطريفة التى سأحكيها لحضرتك حالا والتى كان مسرحها إحدى قاعات (قاعة رقم 4) مبنى محكمة جنوبالقاهرة.. كنا أقل قليلا من 30 مسجونا سياسيا (أغلبنا طلبة) هبطنا من جوف سيارة الترحيلات الكئيبة أمام مبنى المحكمة، التى ستنظر إحدى دوائر الجنايات فيها تظلماتنا من أمر «الحبس» الاحتياطى الروتينى الذى تعودت نيابة أمن الدولة إصداره ضد كل من يمر ببابها، من دون أدنى اعتبار لنتائج التحقيقات التى تجريها، إذ كانت (وما زالت للأسف) تكتفى بأن المباحث ترى أن الماثل أمامها يكره الحكومة والحكومة تكرهه فتحبسه النيابة فورا وخلاص. تجمع الرهط المكبل بالقيد الحديدى الجماعى العتيق (كان يسمى «حجلات» ولست أعرف أصل هذه الكلمة) فى فناء المحكمة تحيطنا جحافل عرمرم من قوات الأمن، وبقينا على هذه الحال دقائق حتى انضمت إلينا بضع فتيات لفظتْهن للتوِّ سيارة آتية من سجن النساء فى القناطر.. عندئذ بدأ الاستعداد لإدخالنا إلى قاعة المحاكمة بتحرير أيادى الذكور من ربقة القيد الجماعى بقيود أخرى ثنائية ساوت تماما بين الجنسين، فكان نصيبى الارتباط ب«كلابش» واحد مع فتاة رائعة تكبرنى فى السن وخبرة السجون والنضال. المهم، دخلنا القاعة وترصصنا فى القفص الحديدى وسط صخب وزحام هائل من أهالينا وأصدقائنا وكتيبة عظيمة فخمة من المحامين المتطوعين للدفاع عن سجناء الضمير.. وفى لحظة هتف الحاجب هتافه الشهير «محكمة» فابتلع الكل ألسنتهم وانسحبت الضجة بسرعة البرق، بينما كان المستشارون الثلاثة يتبوؤون مقاعدهم العالية فوق منصة العدل.. وبعد أن فرغ رئيس المحكمة من النداء علينا جميعا، وبعد أن فاته عمدا الأمر بفك قيودنا كما تقضى الأصول، دعا المحامين إلى بدء مرافعاتهم، وتواتر بروز كبارهم وراح كل منهم يشنف آذاننا بآيات من الأدب القانونى والسياسى الرفيع، بينما هو يترافع عن واحد أو أكثر من حضراتنا.. وظل الأمر يسير على هذا النحو حتى جاء الدور على محام شهير (رحمه الله) شاءت الأقدار أن يكون من قسمة ونصيب صديقتى ورفيقتى فى «الكلابش».. دخل الرجل فى الموضوع مباشرة ومن دون مقدمات وراح يستعرض التهم الثقيلة الموجهة للفتاة، وهى الانضمام لتنظيم سرى يهدف إلى قلب نظام الحكم بالقوة، وكتابة وحيازة وتوزيع منشورات ضد هذا النظام.. إلخ. وما إن أنهى المحامى عرض التهم حتى بدأ يبررها ويسوغها ولا ينفيها (رغم أن الفتاة أنكرتها كلها فى التحقيق) فبالنسبة إلى تهمة العضوية فى تنظيم سرى، قال ما معناه إن النظام الحاكم ديكتاتورى وقمعى ولا يسمح للناس بممارسة حق التنظيم وإنشاء الأحزاب.. ثم طفق سائلا بحماس شديد: هذه الفتاة ورفاقها من الشباب الوطنى الرائع، ماذا بحق الله يفعلون إذا كان النظام يحرمهم من هذا الحق الديمقراطى؟! كنت على وشك أن أجاوب أنا من القفص، لكنه سبقنى وأجاب بصوت زلزل القاعة وأطار عقل رفيقة «الكلابش»: طبعا ليس أمام هذه الشابة إلا الاشتراك فى تنظيم سرى!! لم يحفل المحامى بعاصفة الهمهمات المستنكرة المندهشة التى سرت فى القاعة، وإنما واصل بالحماس نفسه تفنيده تهمة كتابة وحيازة منشورات سرية، إذ بررها بأن النظام يحرم المواطنين من حق التمتع بحرية الرأى ويمنع وجود صحافة حرة فى البلد.. ورغم أن الهمهمات أضحت زئيرا مكتوما، فإن الرجل مضى فى مرافعة «دفاع الإثبات» كقطار الإكسبريس غير عابئ ولا مهتم، وكما فعل مع التهمة الأولى هتف بشأن هذه التهمة قائلا: ماذا بحق السماء تفعل شابة ثائرة مثل هذه (أشار بيده إلى رفيقتى) وهى محرومة مثل كل المصريين، من حقها فى التعبير الحر؟! بسرعة جاوبت أنا بصوت هامس: تعمل منشورات وتوزعها طبعا.. وكانت هذه هى عين إجابة المحامى الذى اضطر إلى قطع سياق مرافعته عندما قفزت رفيقتى وجرجرتنى معها إلى مقدمة القفص، وهى تصرخ قائلة: أنا ليس معى محام.. الراجل ده ماعرفهوش! لكن هيهات، فقد أصر، رحمه الله، على أن يختم مرافعته بسؤال فلسفى عميق جدا فقد أطلق العنان لحنجرته قائلا: سيدى الرئيس، حضرات المستشارين.. نظام بهذه الشاكلة، ألا يستحق أن يناضل هؤلاء الشباب لقلبه وإزالته تماما ولو بالقوة؟! قلنا جميعا.. أيوه عندك حق!!