مشكلة محمد مرسى أنه حينما جاء إلى كرسى الحكم بديلا اضطراريا لخيرت الشاطر، جاء بعقلية يغيب عنها أبجديات الممارسة السياسية، القائمة بالأساس على الاعتراف بوجود صراع سياسى طبيعى فى مجتمع يمر بمرحلة ثورية ما بين السلطة وكل من هم خارجها فى الأغلب (مجتمع مدنى ومعارضة)، صراع ضَبْطه من قِبل السلطة يعنى تأسيسا سليما وصحيا للتعبير عن مصالح فئات المجتمع وطبقاته وتوجهاته بما يصنع اتزانا حقيقيا يضمن تحقيق الحد الأدنى من مصالح كل تلك الفئات، بالإضافة إلى تحقيق مصلحة وطنية عليا. أى أن تحوز المعارضة مساحة الشراكة فى النظام السياسى مثل نظيرتها فى كل الدول فتكون عملية تداول السلطة مضمونة، وأن تحوز النقابات الحرة مساحتها فى النظام السياسى كمعبر عن مصالح من تمثله، وينبطق الأمر نفسه على مؤسسات المجتمع المدنى وجماعات أصحاب المصالح بحيازة المساحة الطبيعية فى المجال العام، دفاعا وتعبيرا عمن تمثله تلك المؤسسات، وهكذا يتحول الصراع الحاد إلى صراع ناعم يضمن العدالة والحرية وربما توافقا حول مشروعات قومية تدفع بالوطن إلى الأمام بخطوات واسعة فى فترة وجيزة، لذلك فالمعروف أن المجتمعات التى توجد فيها سلطة قوية ومعارضة ضعيفة أو العكس هى مجتمعات هشة، أما المجتمعات التى تكون فيها السلطة قوية والمعارضة قوية والمجتمع المدنى على نفس درجة القوة فهى مجتمعات صحية كون الحد الأدنى من حماية المصالح فيها مصونا بفعل موازين القوى تلك. عمليا وفى مصر فالمعروف أن المجلس العسكرى فشل فى تحقيق إدارة رشيدة لهذا الصراع بحكم عدم الدراية بأسس العمل السياسى، وهى دراية لا تتوفر لدى قيادات أى هيئة نظامية بحكم طبيعتها، وتصور البعض أن الانعتاق من حكم العسكر بأى بديل كان يعنى تحقيق ما فشل فيه الجنرالات، غير أن الواقع كان يحمل عكس ذلك تماما، فتولى محمد مرسى (ابن التنظيم صاحب التاريخ السياسى الأطول) الرئاسة وبقاؤه على سدة الحكم، بات يعنى ارتقاءً يوميا للرجل إلى حافة الهاوية التى لن ينقذه منها أحد. فأسباب فشل السلطة الجديدة فى تعاملها مع المعارضة تنوعت ما بين الجهل المدقع لبعض صانعى سياسات السلطة بمفاهيم أساسية متعلقة بالعمل السياسى مثل مفهوم «الصراع السياسى» و«إدراته» و«التوافق» ونتائج مثل مفهوم «العنف» و«الفوضى» و«الحرب»، نتيجة رؤية أيديولوجية إخوانية جامدة لم تتغير، وطامحة ولو بالقوة إلى أن يكون المجتمع ذا لون سياسى وفكرى واحد، أو ربما نتيجة عدم اهتمام من الأساس بما تحمله تلك المفاهيم من أبعاد خطيرة، تزداد توابعها بسعى مرسى وجماعته نحو الاستئثار والاستحواذ والهيمنة المدفوعة ربما برغبة فى انتقام لم يوجَّه إلى السلطة المزاحة بقدر ما كان موجها إلى المجتمع بأكمله وإلى المعارضة فى الأساس. النظريات والتاريخ يقولان إن الصراع موجود كإحدى سمات وخصائص الكون والعلاقات الإنسانية والحياة السياسية بشكل خاص، ففى التفاعلات اليومية العادية حتى وبعيدا عن السياسة يسعى كل طرف إلى تعظيم منفعته، التى لكى تتحقق لا بد من أن تنخفض منفعة الطرف الآخر، من هنا كانت ضرورة أن يتوصل الطرفان إلى اتفاق يراعى بعض الحدود ويحقق التوافق والاستقرار بدلا من التصادم. وعلى أساس فكرة الصراع تأتى عملية إدارة هذا الصراع الإنسانى والسياسى فى نفس الوقت، وهى عملية قائمة على المفاوضات مع جميع الأطراف من أجل التوصل إلى صيغة تستهدف بالأساس إغلاق منافذ التوتر الاجتماعى والسياسى القائم فى بلد يمر بمرحلة تحول ثورى يوازيه انهيار اقتصادى طبيعى قد يتطور إلى كارثة نظرًا إلى طبيعة تلك المرحلة الحساسة إن لم يحسم الصراع باكرا. غير أن هذا الاستقرار لا يتحقق إلا بتحقيق الحد الأدنى من مصالح الأطراف (معارضة، مجتمع مدنى)، وتقديم التنازل السياسى كشرط لفكرة التفاوض نفسها وتحقيق النتائج، وهو أمر يقتضى دفع كلفة سياسية من السلطة. وإن كان من عقدوا اتفاق فيرمونت من القوى المدنية مع مرسى الذى بموجبه كان الثانى ملزما بإيجاد شراكة حقيقية بين السلطة والمعارضة، قد عقدوا هذا الاتفاق بنوازع وطنية حالمة وحسبة سياسية خاطئة، إلا أن الرجل ما إن صعد إلى السلطة حتى انكشفت العقلية الحقيقية الخفية وراء سياسته، المتمثلة فى الرغبة فى السيطرة من قِبَل جماعته كما قلنا، بداية من انفراد بوضع دستور (أو سلقه إن أردتَ القول)، انتهاءً بالسعى للسيطرة على القضاء لضمان مواجهة خصومة من المعارضيين، مرورا بتقييد الحريات الإعلامية لتكميم الأفواه، وإصدار قرارات استبدادية مثل الإعلان الدستورى، مرورا بقمع مفرط لشباب المعارضة المحتجين على قراراته وصل إلى قتل العشرات واعتقال ما يزيد على ألف فى أشهر وتعذيب المئات فى سلخانات الدولة. ولاحظ هنا أنه إذا كان الحد الأدنى للصراع فى علم السياسة هو «الاختلاف»، أو «عدم الاتفاق» بين الأطراف، وهو حد من شأنه تحقيق تنوع وثراء للمجتمعات وإفادة حتمية، فإن الحد الأقصى وهو الحد الخطر متمثل فى فكرة «العنف»، يليها من حيث الخطورة فكرة «الحرب» أو «الفوضى»، وربما هذا ما تعيشه مصر الآن، أو تعيش بوادره. وبالطبع إدارة السلطة هنا للصراع بينها وبين المعارضة هى التى تحدد بالضرورة بأى مرحلة من المرحلتين السابقتين تمر الدولة، لكونها السلطة التى تملك الكروت الأكثر فى التفاوض، بخاصة إذا كانت مطالب المعارضة بديهية ومنطقية ومتعلقة بالحد الأدنى من الحقوق والحريات المعهودة فى أى مجتمع دميقراطى وفى المواثيق الدولية الإنسانية لا أكثر ولا أقل. وتجسدت شواهدها ربما فى نيات حسنة ارتقت إلى الخيبة منذ اتفاق فيرمونت انتهاء بالحرص على المشاركة فى الاستفتاء على دستور غير شرعى كى لا تتورط تلك المعارضة أمام جماهيرها بأنها رافضة اللعبة السياسية برمتها، إذن فصيغة التنازلات كانت قائمة لدى المعارضة حتى من قبل انتخاب مرسى رئيسا! غير أنها لم تكن موجودة لدى السلطة الجديدة على مدار اشهر. وربما لو كلفت الجماعة نفسها -هذا إن أرادت طبعا، ولا أعتقد أنها تريد- بالبحث عن الخطوة الأساسية للتأسيس الحقيقى للدولة التى قامت الثورة لبنائها، لأدركت أن السلطة فى كل المجتمعات الديمقراطية تقدم تنازلات سياسية دائمة كلفةً لبقائها، فمثلا المجتمعات العتيدة فى الرأسمالية على الرغم من المصالح الضخمة لأقطابها كانت طوال الوقت مُجبَرة على تقديم تنازلات سياسية لصالح النقابات وجماعات المصالح التى كانت تملك مطالب مشروعة، قد يبدو حتى لتلك السلطة أنها تحمل كثيرًا من التهديد لنفوذها، لكن فى النهاية السلطة التى قد تكون منحازة لمصالحها بالأساس لا يمكنها أيضا أن تضع تلك المصالح كمكسب وحيد على حساب تدمير المجتمع أو خلق التوتر السياسى والاجتماعى به، لأن ذلك يعنى أنها تقود نفسها إلى كارثة لا تستطيع الصمود أمامها حتى بالقمع. وهكذا تجد تجارب السلطة أيضا فى دول عدة مثل الهند والولاياتالمتحدةالأمريكيةوجنوب إفريقيا، ففى الهند مثلا استطاعت الدولة أن تؤسس نموذجًا توافقيًّا ناجحًا يجمع كل القوى السياسية والقطاعات المجتمعية «هندوسًا، ومسلمين، ومسيحيين، وغيرهم»، من خلال دستور يقوم على المواطنة ويلتزم بقيم الديمقراطية، راقب هنا أن التعداد السكانى فى الهند يزيد على مليار! وهناك أيضا نموذج الولاياتالمتحدةالأمريكية التى تحولت من مجتمع للمهاجرين بفضل براعة السياسيين الأوائل، أو الآباء المؤسسين للديمقراطية فى صناعة دستور وضع أساسًا لإدارة الصراع فى المجتمع يضمن عدم الانقسام ويواجه النزعات الانفصالية القائمة فى ولايات الجنوب، ويضمن تقاسم السلطة وعدم احتكارها.. وهناك تجربة سنغافورة، تلك الجزيرة الصغيرة أو الدولة حديثة النشأة -مقارنة بأعمار الدول- التى جاء إعلان استقلالها فى الستينيات فى ظل مناخ من الطائفية بين شرائحها المجتمعية المتنوعة ما بين صينيين وملاويين وهنود وغيرهم، لكن الزعيم الشيوعى لى كوان يو نجح فى أن يضع أسسا لإدارة هذا التنوع والاختلاف حتى حول جزيرة مساحتها لا تساوى شيئا إلى، واحدة من أبرز الدول الآسيوية رفاهية على صعيد الإنتاج فى العالم، وصار اليوم الجيش السنغافوى من أكثر الجيوش تقدما، بخاصة فى مجال التكنولوجيا فى جنوب شرق آسيا، ومن يطَّلع على مذكرات هذا الرجل -المتاحة فى المكتبات المصرية- يدرك كيف كان ينظر إلى المختلفين معه سياسيا بدرجة تصل إلى الكفر السياسى بما يحملون من أيديولوجيا يراها مدمرة للمجتمع، إلا أن النزاع الوطنى لا الأيديولوجى جعل ممارساته بعد الاستقلال تحمل واقعا مختلفا، فقاد بلاده إلى نهضة وتقدم فى فترة شديدة القصر، إذا قورنت بالمدى الزمنى لتاريخ الدول. أما نيسلون مانديلا، الرجل الذى قضى فى السجون ما يزيد على ربع قرن، من بينها 18 عاما فى سجن انفرادى مساحته متران فى مترين، فلم يخرج لينتقم من البيض أو يوجه انتقامه بحماقه وبدافع مرضى نحو بلاده، بل كان حريصا على أن يدير أكبر قدر من التوافق، من خلال إدماج كل الفرق والطوائف فى العملية السياسية الجديدة، وهى خطوة مهدت الطريق لظهور مناخ يتسم بالسلام والمصالحة والتفاوض جعلت من بلاده بلدا صاعدا ومتقدما، بعد تأسيس دستور يضع ضمانة لحماية الحقوق ومصالح جميع الأطراف، وأزال أى هواجس لدى البيض (أعدائه) من أن يعاملوا باضطهاد أو قمع متوقع، وتحول مانديلا إلى رمز دولى للسلام. تلك هى تجارب النجاح التى تحتاج إلى كتب لسردها، وهى تجارب صنعت استقرارا سياسيا قاد إلى استقرار اقتصادى، أصبح منصة إطلاق لمشروعات نهضوية حقيقية لا وهمية. لكن المقابل تجد أن الانظمة المستبدة هى التى تلجأ متوهمة إلى إدارة صراعها مع المنافسين على أساس العنف، أو الاستبداد أو سحق الخصوم، أو ملاحقتهم وإغراقهم بالتهم والجرائم، وهى آلية فى جوهرها ليس لها علاقة بالعمل السياسى مطلقا، وغالبا ما تقود إلى خيارين: إما فشل المجتمعات وإما خروج الجماهير لإسقاط تلك السلطة، وهو ما رأيناه فى تجربة مبارك الذى كان يملك خيارات عدة فى طريقة إدارته للصراع مع المطالبين بالعدالة الاجتماعية والحرية السياسية من قبل الثورة بسنوات، وربما لو استجاب لها لكانت مصر فى مصافّ الدول المتقدمة الآن، وما كان قد سقط فى أيام معدودة بعد انسحاب داخليته التى صورت للمصريين على مدار سنوات حكمه أنها لا تُقهَر، بينما فرت فى النهاية مذعورة من حشود هتفت بإسقاط كبيرها.