انتهت احتفالات قناة السويس الجديدة، وفرح المصريون بهذا الإنجاز الكبير، وطالب عديد بتخليد اسم كل مَن شارك فيه، سواء مَن أنجزه على أرض الواقع، أو مَن أعدّ للاحتفال، لم يتوارَ أحد عن الأنظار، إلا هو، مفضّلا البقاء خلف التمثال الذى صنعه قبل الافتتاح بقرابة 40 يوما، وهى مدة قياسية لا تقل فى إعجازها عن مدة حفر القناة. طارق الكومى اسم لم يتردد كثيرا فى وسائل الإعلام، لكن تمثاله سيبقى شاهدا على ما حققه أبناء أم الدنيا. «هدية لكل العالم»، هذا الشعار الاحتفالى للافتتاح، كان كذلك الاسم الذى اختاره النحات «الكومى» لتمثاله، ليكون رمزا ل«أم الدنيا» فى استقبال ضيوف القناة على مدخل الإسماعيلية، هدية طارق لمصر والقناة، بدأت فكرتها فى زيارة للقناة، استقبله خلالها محافظ الإسماعيلية مع وفد الفنانين التشكيليين، وهى الزيارة التى أسفرت عن اتفاق على عملين نحتيين احتفالا بالقناة الوليدة، كان أحدهما تمثال «أم الدنيا» للكومى، بارتفاع 8 أمتار وقاعدته 3 أمتار، وهو ما لم يكن إنجازًا سهلا بالمرة، بعين اعتادت بحكم الخبرة تقدير الفن، ويد تحسَّست منذ زمن طريقها إلى الأحجار والطين، عرف الفنان التشكيلى ومدير متحف محمود مختار، طارق الكومى، أن إنجاز تمثال بهذا الحجم فى تلك المدة لن يكون أمرا يسيرا «واصلنا الليل بالنهار، وكنا نعمل بجهد لا يقل عن جهد هؤلاء الذين حفروا القناة فى عام، كان علينا أن ننجز عملا يستغرق 6 أشهر فى 40 يوما، وبالفعل هو ما نجحنا فى تحقيقه، وتم إنجاز التمثال قبل الافتتاح ب5 أيام». التماثيل النحتية التى ارتبطت بقناة السويس منذ إنشائها لم يكن آخرها تمثال الحرية الشهير الذى صمّم خصيصا للقناة، ثم عرف طريقه إلى نيويورك، فما زالت الإسماعيلية تحتفظ بتمثال الخديو إسماعيل فى أحد ميادينها الشهيرة، وكذلك تمثال ديليسبس الذى ظل لسنوات طويلة فى موقعه الشهير ببورسعيد حتى تمت إزالته، كذلك خطرت للكومى فكرة تخليد الحدث الجديد من خلال «النحت»، فكان «أم الدنيا» تفتح ذراعيها للقادمين تطمئنهم على حاضر ما زال غير واضح المعالم، آملة فى مستقبل أكثر إشراقا «التمثال أخد حقه إعلاميا من خلال زيارة رئيس الوزراء لنا فى أثناء العمل، وزيارات المحافظ المستمرة، لكن لم يسمع أحد عمن صنعوا التمثال». «التجاهل مصير الفنانين التشكيليين فى مصر، هكذا هو الحال دائما، إلا إذا أرادت الدولة غير ذلك»، يقول الكومى، مضيفا: «الفن التشكيلى بيلقى نصيبه من رعاية الدولة عندما تحتاجه فقط، لكن فى غير الاحتياج فلا سبيل للفن التشكيلى فى الظهور على السطح»، أهمية الفن التشكيلى يراها الكومى ليست مقتصرة على لوحة فنية مؤثرة أو تمثال معبِّر، «لكنه كما رغيف الخبز»، لأن «الفن روح الأوطان، ويد الدولة القادرة على تهذيب المواطنين والرقى بهم»، فى الوقت الذى كانت فيه مصر أم الدنيا بحق، كانت الفنون هى عماد الدولة، وما بقى منها حتى الآن هو ما تحيا عليه الأجيال المتعاقبة منذ الحضارة الفرعونية «الفن ليس فقط جمال ورقى، لكنه كذلك اقتصاد، وهو أكثر شىء ممكن يدخّل فلوس لمصر إذا ما تم الاهتمام بتفاصيله الصغيرة». ويعول الكومى دائما على «التفاصيل» فى النهوض بمصر ويؤكد «الاهتمام بالفنون الحضارية الموجودة فى مصر هو مصدر الدخل رقم واحد إذا ما أُحسن استخدامها، وتم الاعتناء بكل الجوانب المحيطة بها، وتم تعريف المواطنين بقيمتها التاريخية وكيفية الاستفادة منها بالشكل الأمثل دون الإضرار بها». الجملة المأثورة: «الفن هو الوجه الآخر لزمنه»، باتت أفضل ما يمكن التعبير به عن حال الفن المصرى الآن، ليس فقط الفن التشكيلى، كما يتحدث الكومى مدير متحف محمود مختار، لكن الفنون كافة فيقول: «الزمن الذى يصبح فيه السبكى رقم واحد، ويظهر فيه تمثال نفرتيتى المشوَّه فى ميدان عام لا يمكن أن يكون زمنا لفن محترم»، حالة من الوجوم والإحساس بالخيبة سيطرت على الفنان التشكيلى، عندما طالعته مواقع التواصل صباح أحد الأيام، بوجه نفرتيتى كأسوأ ما يكون، معلقًا: «لم أكن أتوقع أن يكون الاستهتار بالفن قد وصل إلى هذه الدرجة من الانحطاط، فما حدث لا يمكن أن يطلق عليه فنا»، مقترحًا تشكيل لجنة مكوَّنة من كبار التشكيليين، تكون مهمتها مسح ميادين الجمهورية وما تحتويه من تماثيل تشوّه القيم الجمالية وتسىء للشخصيات التاريخية ولقيمة الفن المصرى، مستنكرًا حادثة تمثال نفرتيتى المشوَّه بقوله: «مصر فيها فنانين عظام، فما الداعى أن يقوم مقاول بناء بعمل لا يخصه ولا يستطيع أن يعى القيم والمعايير المحسوبة فى أى عمل فنى؟!». «لا يختلف أحد على دور فاروق حسنى فى النهضة بالفن التشكيلى، والثقافة عموما فى مصر حين كان وزيرا للثقافة»، تلك هى رؤية الكومى، موضحًا: «عشرين عاما قضاها حسنى فى منصبه، لا تنفصل عن رؤيته للفن فى هذه الفترة، ففاروق حسنى كان فنانا حقيقيا وأضاف كثيرا للفن التجريدى، لذلك اهتمّ بالفن التشكيلى، وأتاح لفنانى جيلنا فرصًا لم تعوض، وأنشأ عددا من المشروعات الإبداعية التى ما زالت حتى الآن تتيح دعمًا للأجيال الصاعدة فى مجال الفن التشكيلى، لكن يعيبه طول مدة بقائه فى الكرسى»، لا يختلف عيب وزير الثقافة الأسبق عن عيب الرئيس الذى ظل 30 عاما على رأس السلطة من وجهة نظر الكومى، حيث أشار إلى أن «8 سنوات هى أقصى مدة لمسؤول فى منصبه أيا ما يكون هذا المنصب». الثورة التى أطاحت بمبارك ونظامه يؤكد الكومى أنها تأخَّرت كثيرا عن موعدها «كانوا يستحقونها، والمشروعات الثقافية التى قدّمتها سوزان مبارك لم تستطع أن تجمّل وجه هذه السنوات العجاف التى جرفت الثقافة المصرية الحقيقية»، وفى عودة إلى حديثه عن فاروق حسنى يؤكد «كثيرون لا يقدّرون قيمة فنه، ومع الأسف حتى الآن فى مصر لم تتم قراءة أعماله بشكل جيد، ظُلم فاروق حسنى كفنان بموقعه كوزير للثقافة، حتى بعد خروجه منها». «الثورة التى أطاحت بالنظام الأسبق فتحت مجالا لخروج الفن إلى الشارع والاختلاط بالناس، وهو ما ظهر جليا فى فن (الجرافيتى) الذى ترك بصمة الثورة على الجدران واحتفظ للمواطن العادى بحقه فى التعبير، حتى وإن كان بأبسط الأشياء (فرشة ولون)»، هذا ما يراه الكومى خُطوة تأخرت كثيرا لتحرير الفنان والمثقف المصرى من النظرة القاصرة له التى تعتبره من سكان الأبراج العاجية، فالمثقف المصرى عنده «ليس بمعزل عن محيطه، لكن هذا ما تريده أجهزة الدولة وعلى رأسها التليفزيون». الفنان الخمسينى أكد أن المواطن ما هو إلا متلقٍّ، موضحًا وجهة نظره «المواطن على ما تعوّده، وهو ما نجح فيه التليفزيون فى صناعة مواطن لا يقدّر دور الفن أو الفنان، لكن استطاع فنانو الثورة تغيير الصورة النمطية للفنان من خلال التلاحم الحقيقى». فى النهاية، يبقى المشهد الختامى لافتتاح قناة السويس هو المشهد الأكثر تعبيرا عن أزمة الفن المصرى، فرغم المواهب المصرية التى يعترف بها العالم أجمع فإنه «لا كرامة لنبى فى وطنه»، حسب كلام الكومى، فالحفل الذى تم الاستعانة فى تنفيذه وتصميمه بشركات أجنبية، فَقَدَ البصمة المصرية كما يؤكد الكومى الذى كانت له رؤية مختلفة فى تصميم الحفل الذى استوحى حفل الخديو إسماعيل فى افتتاح القناة الأولى مستعينا بأوبرا عايدة، وهو ما تنافى مع الذوق المصرى الذى أنهى الحفل «بزغرودة» على المسرح. «الزغرودة هى التعبير الحقيقى عن الشخصية المصرية فى الحفل، لكن أوبرا عايدة بتفاصيلها التى أوضحت عدم كفاءة المصريين فى أدائها، أصابت الحفل فى مقتل»، هذا ما أوضحه الكومى فى معرض حديثه عن حفل الافتتاح، «استعراضٌ لفرقة رضا وإعادة إنتاج أوبريت (حلاوة شمسنا) كان هو الشكل أكثر تعبيرا عن الثقافة المصرية، وكان سيكون جاذبا بشكل أكبر من الأوبرا التى لا تحمل الصبغة المصرية، ليس الأوبريت وحده هو ما كان سيضيف مزيدا من التمصر لحفل الافتتاح، لكن كذلك لوحات بشرية للفنون اليدوية المصرية البسيطة، مثل النسج، والبنّائين، والنحاسيين، وصنَّاع الأرابيسك، فى لوحة حية تمر على شط القناة فى أثناء العرض الافتتاحى كبديل للسفن الصماء التى كانت تمر فى خلفية المشهد»، تلك هى رؤية الكومى للشكل الأنسب واللائق بالافتتاح، مضيفًا: «مع الأسف اللجوء إلى الأجانب أفقد الافتتاح الروح المصرية الأصيلة التى كان من الممكن أن تضيفها العقول المصرية إذا تم الالتفات إليها».